Menu
منهجية التعامل مع التراث الإسلامي - مراجعة لكتاب من أدب الاختلاف إلى نبذ الاختلاف - أُمْنِيّة أهلِ السجود([1]) - The future of Islam in America and west - جانب من جلسات فريق باحثي الأزهر للعمل على وضع منهجية مراجعة التراث - حوار حول الربيع العربي - الإسلام والمسلمون من وجهة نظر غربية - برنامج اخترنا لمكتبتك - معالم في المنهج القرآني - ومضات فكرية

(بيان رقم واحد)

                                     

أ.د/ طه جابر العلواني

ليس هناك أحد من جيلي نسي أو ينسى هذا العنوان في العراق، وربما في سوريا التي شهدت موجات من الانقلابات العسكريَّة الكثيرة، منذ انقلاب حسني الزعيم في سنة 1949 وقد بدأت الانقلابات في العراق منذ انقلاب بكر صدقي 1936، واستمرت إلى 1968، حين وقع انقلاب عبد الرزاق النايف ومجموعته وأحمد حسن البكر، وما بقي من حزب البعث معه ومع صدام. فالبيانات رقم واحد كانت تفاجئنا به أصوات عسكريَّة من ضباط ينقلبون على من سبقهم أو شاركهم من الحكام، مدنيّين كانوا أم عسكريّين، فأول ما نسمعه “البيان رقم واحد” بعد الاتكال على الله وبمؤازرة المخلصين: “تم القضاء على الطغمة الفاسدة”. ثم يسترسل البيان رقم واحد بعبارات رنانة أخرى ملأى بالوعود الورديَّة للشعب بأنَّ حياته سوف تتحول إلى جنة ونعيم في ظل الزعيم الجديد، بعد أن كانت جحيمًا في ظل الحكومة السابقة، وكأنَّ الشعب المنكوب لم يولد إلا عند “البيان الأول”.

وأذكر أنَّ الفريق الركن عبد الكريم قاسم أمر بكتابة البيان الأول لانقلاب 14 تموز/يونيه 1958، بحروف خشبية كبيرة، لا يمكن لمن يعرف القراءة والكتابة إلا أن يقرأها؛ لأنَّها وضعت على لوحة مساحتها عدة أمتار، في الباب الشرقي من بغداد، بحيث يراه الناس مصبحين وبالليل. وكان الزعيم الأوحد ــ وذلك لقبه الذي لقبه به أنصاره ــ يختبر من يخرجه من السجن ويقابله بالسؤال العتيد: هل قرأت البيان الأول للثورة؟ وأذكر حين أُخرجت من السجن لمقابلته أنَّه حين وجه لي هذا السؤال قلت له: قرأته وحفظته، وإن شئت أسمعتك إياه من أوله لآخره؛ فسكت قليلًا ثم عاد ليقول: وهل عرفت معناه؟ قلت له: أستطيع أن أكتب له شرحًا “بقال أقول”، أو بما هو أوسع من ذلك؛ فانتقل الرجل إلى نقطة أخرى، واستمرت الحال هكذا.

 وبعد أن آلت السلطة في العراق إلى نائب عريف صدام حسين ــ وهي الرتبة العسكرية الحقيقيَّة الوحيدة التي حملها صدام باستحقاق، وحين قام مع مجموعته بمحاولة اغتيال عبد الكريم قاسم كان نائب عريف، ينادى عليه في محكمة المهداوي التي سميت بمحكمة الشعب نائب العريف الهارب صدام حسين، وكل ما حمله من رتب عسكريَّة بعد ذلك إنَّما هي كما يقول العراقيون: “عمل أو اشدادة لا كرخانة، ولا أصليَّة” ــ جرت محاولات عديدة للانقلاب عليه، منها محاولة كان اسمي بين أسماء من قاموا بها، مع عبد الرزاق النايف وعبد الغني الراوي وآخرين، وصدرت أحكام الإعدام على كل تلك الأسماء، ونُفذ الحكم فيمن كانوا داخل العراق، ونجى من كانوا في الخارج أمثالي، واستمرت محاولات الانقلاب حتى سنة 1994، أي بعد احتلاله للكويت وإخراجه منها، وانحصار سلطانه في بغداد والأنبار وبعض المناطق الأخرى، أمَّا الشمال والجنوب فقد فرضت أمريكا وأوروبا حظرًا لطيرانه؛ لئلا يؤذي الإخوة الأكراد والإخوة الشيعة في مناطقهم، ويبدو أنَّ أمريكا كانت تعد لتمزيق العراق لحماية أمن إسرائيل بتفتيت كل من حولها من الأقطار العربيَّة.

        وفُرض حصار خانق على العراق، فتجمع ضباط متقاعدون مع ضباط موجودين في الخدمة، وعدد كبير منهم كان من بين قوات الحرس الجمهوري، الذي كان يعتبر موضع ثقة صدام المطلقة، وتجمع ما يقرب من أربعمائة ضابط من هؤلاء، كان من بينهم العميد الركن بشير الطالب، الذي كان صديقًا لنا منذ عهد عبد السلام عارف، فجاءني ذات يوم صديق مشترك كان قد زار بغداد والتقى بالسيد بشير الطالب ــ يرحمه الله ــ وقال لي: بأنَّ أبا محمد العميد الركن بشير يقود الآن مجموعة كبيرة من ضباط الجيش، وقد استكملوا استعداداتهم للانقضاض على صدام، وكلفوا بعض شخصيَّات المعارضة للاتصال ببريطانيا وأمريكا، وإخبارهم بأنَّهم يعدون العدة لتغيير النظام في العراق، وأنَّهم ينتظرون منهم التأييد عندما يعلنون عن أنفسهم.

        وثبت بعد ذلك أنَّ لقاءً قد تم مع مسئولين بريطانيين وأمريكيين في لندن مع مندوبين عن هذه المجموعة، وصرح الوسيطان السيد سعد صالح جبر والمرحوم جواد السهيل بأنَّ الممثلين الأمريكان بعد أن عرفوا جميع الأسماء المنضمة إلى هذه المجموعة للانقلاب عليه أبلغوا صدام؛ فأبادهم جميعًا، ومنهم بشير الطالب، وكان مجموع من قتل في تلك المحاولة قبل الشروع في التنفيذ ما جاوز أربعمائة ما بين ضابط وسياسي من جميع الأطياف العراقيَّة، وجلهم كانوا من الضباط العرب السنة، وكانت هذه آخر محاولة انقلابيَّة داخليَّة أمكن للعراقيين إعدادها للتخلص من الدكتاتور، وأجهضت بهذه الطريقة.

موضع الشاهد: أنَّ ذلك الصديق المشترك المدني قد جاءني قبل أن يعلن صدام عن اكتشاف المحاولة، والقضاء على المدبرين جميعًا، أنَّ السيد بشير الطالب قد حَمَّله أمانة لي: أنَّه يرجوني إعداد مسودة “البيان الأول”، فقلت له: إنَّهم ليسوا بحاجة إذا كانوا بالشكل الذي وصفت إلى أحد مثلي؛ ليعد لهم البيان الأول. وتوقعت أن تكون تلك محاولة لاستدراجي، ومحاولة قتلي ضمن من كانوا يعدون لقتلهم، فقال صاحبي: هو أراد تعويضك ومنحك نوعًا من التكريم، بأن تكون أنت من يعد البيان الأول للثورة، وإلا فكما قلت: هناك كثيرون يمكن أن يعدوا لهم البيان الأول.

        وعلمت فيما بعد أنَّ أمريكا كانت متعمدة أن تكشف أيَّة محاولة انقلابيَّة يمكن أن تبقي على جسم الدولة العراقيَّة ومؤسَّساتها وتغير النظام فقط من فوق من خلال رأسه، والقيادة الهرميَّة له؛ لأنَّها كانت سيئة النيَّة، وتنوي احتلال العراق وتفكيك مؤسَّساته كلها، تاريخيًّا وحاضرًا، فذلك هو التفسير المقنع لذلك التعاون بينها وبين صدام، وكشفها لتلك المحاولات، بانتظار أن تنضج الأمور كما يقال: “على نار هادئة” تمكنها من تفكيك العراق، جيشًا وشعبًا وحكومة ومؤسَّسات، وتهيئه القطر للتقسيم؛ لإيجاد نظام دولي جديد، يخلف نظام سايكس بيكو، فلعل قومي يعلمون!. ولعل من بقي منهم يستيقظون!!.

لقد توقفت الآن الانقلابات العسكريَّة، بل إنَّ كثير من العسكريين العراقيين والسوريين قد انضموا إلى أحزاب وفئآت مدنيَّة، وصاروا دعاة للديمقراطيَّة وما إليها، وتوقفت سلسلة البيان رقم واحد، ولعلها تتوقف إلى الأبد!! ولله في خلقه شئون.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *