Menu
منهجية التعامل مع التراث الإسلامي - مراجعة لكتاب من أدب الاختلاف إلى نبذ الاختلاف - أُمْنِيّة أهلِ السجود([1]) - The future of Islam in America and west - جانب من جلسات فريق باحثي الأزهر للعمل على وضع منهجية مراجعة التراث - حوار حول الربيع العربي - الإسلام والمسلمون من وجهة نظر غربية - برنامج اخترنا لمكتبتك - معالم في المنهج القرآني - ومضات فكرية

هجر القرآن وعلماء أصول الفقة

أ. د/ طه جابر العلواني

لعلّ من المستغرب أن يقال بأنَّ بعض علماء أصول الفقة قد هجروا القرآن، لكنَّنا سوف نذكر أمثلة على هجر بعضهم لكتاب الله.

أولًا: كلّنا يعلم أنَّ الله (تبارك وتعالى) قد بيَّن للناس كافَّة أنَّه مَا من قرية ولا قوم إلا أرسل إليهم نذير، وأنزل عليه مَا يعينه على حُسن توجيههم وإصلاح شأنهم وقال (تعالى): ﴿… وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلَا فِيهَا نَذِيرٌ (فاطر:24)، وقال (جل شأنه): ﴿ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولا… (النحل:36)، وقال (تبارك وتعالى): ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلا مِّن قَبْلِكَ مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُم مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاء أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ (غافر:78)  وحين أُهبط أدم وزوجه إلى الأرض، أهبطا ولديهما توصيتان الأولى: «تتمثل بالعهد بين الله والإنسان» في قوله (تعالى): ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (الأعراف:172-173)، وهذا العهد مغروس في تلافيف الفطرة الإنسانيَّة والذاكرة البشريَّة؛ ولذلك يكثر في القرآن المجيد نحو قوله (تعالى): ﴿… أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (السجدة:4)، أي: العهد المبرم بين الله (تعالى) وبينكم. والتنبية الثاني الَّذِي حدث: لما أهبط الله أدم و زوجه إلى الأرض وقال لهما: ﴿ قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (البقرة:38).

ونزول الشرائع على الرسل الذين ينتمون إلى الأقوام والأمم والقرى والشعوب ويتكلمون بلغتهم، فيه بيان واضح ظاهر لرحمة الله بالإنسان، وعدم تركه سدى، ومع ذلك فنجد الأصوليّين يعقدون فصلًا أو مسألة يسمونها «حكم الأشياء قبل الشرع» منطلقين من فرضيَّة خلو الزمن في بعض الأحيان من الأنبياء والشرائع، أمَّا دلالات القرآن المجيد فهي توضح بأنَّ الزمن كلّه مشحون بوحيّ إلهيّ تتابع الرسل والأنبياء عليه، ويحمل من كل جيل أتْباع لأولئك الرسل ينفون عن تراثهم تحريف الغالين وانتحالات المبطلين وتأويلات الجاهلين، فمتى تُنزه جامعاتنا العريقة «كالأزهر» و«الزيتونة» و«القرويين» برامجها التعليميَّة من تلك المسائل التي فرضت عليها وأُدرجت فيها من غير دليل ولا تعليل، وقامت على الافتراضات الخياليَّة؟

ثانيًا: يدرج الأصوليّون بين مسائل الأصول مسألة بعنوان «حكم تكليف مَا لا يطاق» ويديرون جدلًا عقيمًا فيما بينهم يهدم أساس التكليف ويقضي عليه، ومما يطرحونه في مجادلاتهم أنَّ أبا لهب مثال على تكليف مَا لا يطاق، فالله يعلم أنَّ أبا لهب لن يؤمن، ومع ذلك كلَّف نبيه (صلى الله عليه و آله وسلم) أن يشمله بدعوته إلى الإيمان، فهو مكلَّف بمقتضى الدعوة بأن يؤمن، والله يعلم في الحقيقة أنه يستحيل أن يؤمن؛ لأنَّه لو آمن لوقع الكذب أو الخلف في علم الله الثابت، وهذه المسألة تناقض القرآن مناقضة حادة فالله (تبارك وتعالى) قال: ﴿لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ… (البقرة: 286)، ﴿… لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا … (الطلاق:7)، فالأمر محسوم، والتكليف بما لا يطاق منتف، والبحث فيه بطريقة الأصوليّين يؤدِّي إلى زعزعة مبدأ القدر والجبر، وإثارة الأسئلة الكثيرة التي قد تدمر مبدأ المسئوليَّة لدى الإنسان، وإذا دمر هذا المبدأ فلن يكون هناك تدين ومتدينون ولن ينتفع الناس برسالة ولا بمرسلين، فلم يصر الأصوليّون على البحث في مسألة فرغ القرآن منها منذ وقت طويل، ويصرون على إعادتها وتكرارها في مقرراتهم الأصوليّة، ويزعم بعضهم أنَّ هذه المسائل تخدم التنمية الذهنيَّة العقليَّة التي لا تتكامل بزعمهم إلا إذا خاض الناس في هذه المسائل، وهدموا ركن المسئوليَّة وثارت فيهم أسئلة الجبر والاختيار، ونفي القدر وإثباته وما إلى ذلك من عويص المسائل؟.

 ثالثًا: المسألة المعروفة بتكليف الكفار بفروع الشريعة مع أنَّ القرآن المجيد قد أنفق العهد المكيّ كلّه ببناء التوحيد في القلوب، واستمر يفعل ذلك حتى السنة الثانية من الهجرة، حتى بدى الإسلام كأنَّه التوحيد وحده، ثم جاءت الشرائع الأخرى وحدَّد الله (جل شأنه) أنَّ كل عمل لا يقترن بالنية الصالحة الصادقة إنَّما هُوَ هباء، كما في قوله (تعالى): ﴿ وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا (الفرقان:23)، فالنية الصحيحة بها يكون العمل، وعليها تتوقف فائدته، وبها يظهر أثره وتأثيره، وادعائهم بتكليف الكفار بفروع الشريعة بتلك النزعة السياديَّة التي تدعي أنَّ من يقولون بهذا القول إنَّما يريدون أن يضاعف العذاب للكافرين يوم القيامة فلا يعاقبون على عدم الإيمان فقط، بل عليه وعلى التفريط بفروع الشريعة، وما كان لهم أن يضعفوا الجانب الإيمانيّ في مناقشاتهم وجدلهم لكي يبرزوا أهميَّة فروع يتوقف أداؤها على النيَّة التي تتوقف على الإيمان، والله أعلم.

رابعًا: تجاهل قوله (تعالى): ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا… (المائدة:48) وقوله (تعالى): ﴿ فَإِن جَآئوكَ فَاحْكُم بَيْنَهُم أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (المائدة: 42)، ليقرروا الدخول في مسألة كثر الجدل فيها، وهي مسألة وحدة شرائع الأنبياء أو اختلافها، مع أنَّ اتجاه القرآن واضح فيها، فالإيمان الَّذِي نزل الوحي به على جميع النبيين هُوَ واحد لا اختلاف فيه كما قال الله (تعالى): ﴿… أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ… (النحل:36) وأنَّ الله (جل شأنه) أحد: ﴿ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ (الإخلاص:1-4)، وأنَّ الله رب الناس كافَّة، وهو وحده المتفرد بالربوبيَّة والألوهيَّة، وصفات الله (جل شأنه) وأسمائه (تبارك وتعالى)، وأنَّ الشرائع التي جاء بها النبيون يمكن أن تختلف بما لا يعود على أصلها التوحيديّ بالنقد، ومع ذلك فلا يزال الأصوليّون يتحدثون عن مسألة “شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد ناسخ”!!.

خامسًا: كثر جدلهم حول تكليف المعدوم، ويعنون بذلك: الذين لم يكونوا موجودين على قيد الحياة عند نزول الخطاب القرآنيّ، فقد أثار بعض شياطين الفلسفة فكرة كيف يخاطب المعدوم الَّذِي لم يوجد بعد، وتجاهل الأصوليّون وحدة القرآن البنائيَّة، التي بينت مراحل الحياة الإنسانيَّة، وعلاقة التكليف بكل منها، فهناك مرحلة العهد، ومرحلة الاستخلاف، ومرحلة الائتمان، وقبول الإنسان الأمانة، ومرحلة الابتلاء، ثم مرحلة البرزخ، ثم البعث، والجزاء. فهذه كلها مراحل متصلة يحيا الإنسان بكل مرحلة بإذن الله بحسبها، وهو ينتقل من مرحلة لأخرى، ومن طور لأخر، ومنذ عالم العهد عد الإنسان شيئًا وصار مذكورًا في الملأ الأعلى، وصار مُكلَّفًا، فلا نستطيع أن نقول إنَّ هذا الصبي لأنَّه الآن صبيّ غير مُكلَّف بل هُوَ مكلف تكليفًا مشروطًا بوصوله لحالة البلوغ حيث يصبح التكليف تكليفًا وتنفيذًا، أمَّا أصل التكليف فهو قائم منذ قالوا بلى، وبالتالي فلم يكن للأصوليّين أن يثيروا جدلًا في هذا الأمر بالطريقة التي آثاروها.

السادسة: مسألة شكر المنعم، والجدل في وجوبه من عدمه بالعقل أو بالشرع، ثم خوضهم في الشرعيَّة العقلانيَّة خوضًا أدى إلى إثارة كثير من الغبش حول كل منهما، فلم يستطع الأصوليّون إعطاء تصورات واضحة لما عرف فيما بعد بالعقلانيَّة، كما لم يستطيعوا أن يقدموا قولًا فاصلًا بالشرعيَّة، ومدى إمكان تدخل العقلانيَّة فيها من عدمه، وبقيت أمور كثيرة غامضة يثور الجدل حولها من حين لآخر.

السابعة: مسألة الْحُسَن والقبح العقليّين، فهذه مسألة أخرى من المسائل الملغزة التي خاض الأصوليّون فيها، فما زادوها في خوضهم إلا غموضًا واضطرابًا وبلبلة وغبشًا، أصاب الشرعيَّة والعقلانيَّة في وقت واحد، وهذه من المسائل التي تحتاج إلى بحوث متعمقة؛ لتحديد الأدوار والميادين والمجالات التي يعمل فيها العقل والسمع، ولعلّ الغزالي أبا حامد كان يلمح إلى ذلك حين أشار في مقدِّمة مستصفاه إلى أنَّ أفضل أنواع المعارف “مَا إزدوج فيه العقل والسمع، فأخذ من السمع صفوة ومن العقل صفوة، فكان ذا عقل مؤيد مسدد وفكر رشيد”[1].

لقد عادت هذه البحوث على العقل المسلم بكثير من الغبش والاضطراب، ومسحت المعالم الظاهرة بين العقل والنقل، وبين التعبديّ والمقاصديّ، مما يحتاج إلى سلسلة من الدراسات المتعمقة التي تستطيع أن تجلي الغموض، وتبرز الوضوح المطلوب الَّذِي تشتد حاجة الأمَّة إليه؛ خاصَّة في عصرنا هذا والعصور اللاحقة، فإذا انتقلنا إلى أبواب اللغات ومباحث الأصوليّين فسنجد مسائل لا ينقضي منها العجب، فهم قد بحثوا في اللغة، وواضعها، وما إذا كانت توفيقيَّة أو اصطلاحيَّة توفيقيَّة، وأصولها، وتطورها، بحوثًا لا شك في أهميَّتها، فقد كانت تمثل الهرمونتك القديمة إن صح التعبير، ولكنَّهم غفلوا أو تغافلوا عن أمور في غاية الخطورة، ومنها كيفيَّة توثيق اللغات خاصَّة بالنسبة للألفاظ الشرعيَّة، وظنّوا أنَّهم قد حسموا الأمر حين قسموا الحقائق والمجازات إلى حقائق لغويَّة وعرفيَّة وشرعيَّة، ومثلها المجازات، وحاولوا التوفيق بين ذلك كلّه وصبه في قالب واحد، وشغلوا أنفسهم وانشغلوا عن لسان القرآن الَّذِي وصف بأنَّه مبين وبيِّن وتبيان لكل شيء، وما يمكن أن يوصف كل كلام عربيّ بهذه الأوصاف، بل لا بد من توافر شروط معينة، كما غفلوا أو تغافلوا وتجاوزوا الكلام في توثيق اللغات والمعاني المرادة بالألفاظ، مع علمهم بضرورة ذلك؛ لمعرفة خطاب الشارع على وجهه، وفي الوقت الَّذِي اهتموا برواية الأحاديث والآثار وشجّعوا على الأخذ بالرواية الدراية لكنَّهم حين جاءوا إلى معاني الكلمات والأساليب والسياقات مروًا عليها مرور الكرام، وأسرعوا الخطى، وتركوا من الثغرات مَا لا يليق بهم أن يتركوه مفتوحًا إلى يومنا هذا؛ ولذلك فإنَّ أخطر وأهم مباحث الأصول إذا نظرنا إلى عدم توثيق اللغات نستطيع أن نعتبرها ذكرًا لم تطمس بعد، فبقيت تلك الدلالات دائرة بين الاحتمالات المتعددة، فما من نص إلا نجد من يجادل فيه لينزل به إلى مرتبة الظاهر فما دونها، والظاهر عند هؤلاء نص عند آخرين، ناهيك عن مسائل معقدة مثل مسائل المفاهيم، وكيفيَّة النظر فيها، وهذه الاستهانة بتوثيق اللغات نزلت بمراتب الأدلة كلها عندهم إلى مرتبة الظنّ.

 ونستطيع إذا أخذنا هذا الأمر بعين الاعتبار أن نتبيَّن كثيرًا من المشكلات في العموم والخصوص، والإطلاق والتقييد، والإجمال والبيان، وصفات الألفاظ، مثل التواتر والاشتراك والمجاز والحقيقة وما إليها، وفي كل ذلك لا نجد أثرًا يذكر للقرآن المجيد في مباحثهم في تلك الأمور، فلقد ظنّ الكثيرون منهم أنَّه يكفي أن يشيع بين علماء العربيَّة استعمال اللفظ في معنى معين ليطردوا في سائر المعاني، وقد جرّ ذلك إلى مشكلات فقهيَّة هِيَ أكثر من الكثرة، فإذا تجاوزنا ذلك إلى السنن والآثار فسوف نجد أمورًا أخرى لعلنا نعود إلى ذكرها في حلقات لاحقة.

[1]   الغزالي، المستصفى، بتصرف.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *