Menu
منهجية التعامل مع التراث الإسلامي - مراجعة لكتاب من أدب الاختلاف إلى نبذ الاختلاف - أُمْنِيّة أهلِ السجود([1]) - The future of Islam in America and west - جانب من جلسات فريق باحثي الأزهر للعمل على وضع منهجية مراجعة التراث - حوار حول الربيع العربي - الإسلام والمسلمون من وجهة نظر غربية - برنامج اخترنا لمكتبتك - معالم في المنهج القرآني - ومضات فكرية

مواقف للتأمل بين الحفظ والقراءة

أ.د.طه جابر العلواني

ولِدتُ في مدينة الفلُّوجة أو في القرية المجاورة لها  وهي “الـﮕرمة”، وحين بلغت الخامسة من العمر أخذ عمي الحاج “خلف” -يرحمه الله- بيدي وذهب بي إلي مسجد صغير، كان الـمُلا “مشحن الفرحان” يدرِّس القرآن فيه لمجموعة من أبناء المدينة، فسلمني عمي إلى الـمُلا  “مشحن”، وكان رجلًا يرتدي الجبة والعمامة، كثير الابتسام، ذا لحية كثيفة، طيلة الدرس يحمل بيده عصى، قليل الجلوس أثناء الدرس؛ فهو يظل متحركًا ذهابًا وأوبة بين الطلاب، فضمني إلى مجموعة وبدأنا بجزء عم.

كنت آنذاك سريع الحفظ، أحفظ بأسرع مما أقرأ، فكان يكفي أن يقرأ الأولاد الثلاثة أو الأربعة الذين معى السورة بعد أن يرددها الـمُلا “مشحن” فلا يصلني الدور إلا وقد حفظتها، فأقولها من حفظي دون أن أنظر في المصحف. وبعد مرور شهر أو أكثر طالب الـمُلا “مشحن” أسرتي بأن تدفع له المبلغ المخصص لحفظ جزء عم، فرحب عمي، وقال له: سأدفع لك بعد أن أختبر “طه”، فإذا وجدته يقرأ ويكتب أيَّة آية أريدها من السورة بالجزء الذي يحفظ؛ سأضاعف لك المبلغ، فرح الشيخ “مشحن” وقال له اختبره كما تشاء.

 فأمرني أن أضع المصحف على حجري وأقرأ،  فقال: اقرأ سورة القارعة؛ فقرأتها دون أي خطإٍ، فقال لي: اقرأها في المصحف كلمة كلمة، وهنا اكتشف أنِّي لا أعرف القراءة من المصحف، فقد كنت أحفظ دون أن أقرأ، فنهر الـمُلا، وأخبره: إنَّما أردت منك أن تعلمه القراءة من القرآن، وأمَّا الحفظ فهو طفل سيال الذهن، يستطيع أن يحفظ ما تريد وما نريد، ولكن لابد من القراءة والكتابة. وأخذ بيدي وودعنا الـمُلا، بعد أن نقدَه ما شاء، وأخذني إلى الـمُلا الثاني وهو مُلا “سالم الكبيسي”، وكان يدرِّس في فناء بيته، وكان أكثر دقة من الـمُلا “مشحن”، فكان يطلب منَّا القراءة من المصحف، وتعلمنا منه رسم الكلمات وقراءتها، فكان في مقدور أيٍّ منَّا أن يعيد كتابتها كما هي في المصحف، بالإضافة إلى ذلك فقد كنت أحفظ ما يعلِّمنا، وقد ارتاح عمي إلى طريقته، وبقيت معه حتى ختمت القرآن كله قراءة، وحفظت الكثير منه، وصرت قادرًا على أن أقرأ على عمي أي سورة يفتحها لي.

وهنا قام الطلاب برئاسة الـمُلا بعمل حفلة “ختم القرآن”؛ وهي بمثابة حفل زفاف، حيث يطلب من أهلنا أن يهيؤوا للمتخرج الخاتِم جلبابًا “دشداشة” لطيفة الشكل جديدة؛ لنزف بها. وأذكر أنَّ المتخرج في ذلك الوقت –وهو أنا- أمره الـمُلا سالم أن يقرأ على المنزل قبل أن يودعوا بقيَّة الطلبة الآيات الأُول حتى سورة البقرة إلى أن يصل إلى قوله تعالى: ﴿ خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ (البقرة:7)، فيهجم الطلبة على زميلهم هذا يقرصوه من يده، ويشدوه من طاقيَّته أو شعره، فإمَّا أن يحتمل أو يهرب إلى الداخل، أو يجري ويجري الطلبة وراءه، ويكون أهل البيت قد أعدوا الكحك أو “الكليجة” ويقوموا بتوزيعها على الطلاب، وتخصيص صحن كامل منها للمُلا.

وكبرت وما زلت أضحك مما جرى لي في ذلك الحفل، وأضحك على الـمُلا، وكيف تحوَّل الختم على القلوب الذي يشتد خوفي الآن منه كلما قرأته أو سمعته؛ لأن يعني -والعياذ بالله- إغلاق القلب وختمه، كما يختم الخطاب بالشمع الأحمر فلا يفتح، وأقول كيف حولت العامَّة هذا المعنى الخطير إلى ما أسمته بالختمة التى تعني أنَّ الإنسان قد قرأ القرآن كله، أو ختمه، وشاع اللفظ بهذا المعنى وانتشرت حتى كاد المعنى الحقيقي أن يختفي!.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *