Menu
منهجية التعامل مع التراث الإسلامي - مراجعة لكتاب من أدب الاختلاف إلى نبذ الاختلاف - أُمْنِيّة أهلِ السجود([1]) - The future of Islam in America and west - جانب من جلسات فريق باحثي الأزهر للعمل على وضع منهجية مراجعة التراث - حوار حول الربيع العربي - الإسلام والمسلمون من وجهة نظر غربية - برنامج اخترنا لمكتبتك - معالم في المنهج القرآني - ومضات فكرية

رسالة المسجد

أ.د/ طه جابر العلواني

الحمد لله نستغفره ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئآت أعمالنا، من يهدي الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلن تجد له وليًا مرشدًا، ونصلي ونسلم على سيدنا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، أنقذنا الله به من الضلالة، وأنجانا به من الهلكة، وأخرجنا به من الظلمات إلى النور، (صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعه واهتدى بهديه إلى يوم لقاه).

ثم أمَّا بعد:

فإنَّ “المسجد” مأخوذ من السجود، فمساجد الإنسان أعضاؤه التي يضعها بشكل معين يمثل هذه الحالة التي سماها الله (جل شأنه) السجود، فمساجدنا جباهنا، وأنوفنا، وأكفنا، وركبنا، وأقدامنا. وسميت مواضع السجود وأماكنها بالمساجد؛ لأنَّها الأماكن التي أمرنا الله (جل شأنه) بتخصيصها واتخاذها مساجد، نتوجه إلى الله (جل شأنه) بالعبادة فيها، والسجود له على أرضها. ومساجد الإنسان أشرف أعضائه، ومواضع سجوده أشرف الأماكن في الأرض لنسبتها إلى السجود ﴿فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (النور:36)، ﴿وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا (الجن:18)، فإنَّ الله (جل شأنه) قد فطر الإنسان على البحث عن إلهه وخالقه (جل شأنه) ليركن إليه، ويجأر بالدعاء إليه في ملمَّاته، ويعلي صوته بمناجاته، فيشعر بالطمأنينة، ويحس بالراحة وقد ألقى حاجاته بين يدي مولاه، فإنَّ صاحب الحاجة حين يبلغ رحاب من يظن أنَّه القادر على إجابة دعائه والاستجابة لرجائه وقضاء حوائجه فإنَّه يشعر وكأنَّ ذلك كله قد تحقق، بمجرد تسليمه الطلب، فمن بلغ  الملك أو الرئيس وسلمه طلبه بيده يشعر بارتياح كبير بمجرد ذلك، فإذا علم بأنَّ الملك أو الرئيس قد اطلع على طلبه، ولبى نداءه وقبل رجاءه فإنَّه يشعر بتمام الفرحة وكمال السعادة، وهكذا المسجد، حين ننظر إليه على أنَّه موضع السجود: “أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد”. فذلك يعني أنَّها الأماكن التي يذكر فيها اسم الله كثيرًا، الأماكن التي نكون أقرب ما نكون إلى ربنا ونحن ساجدون فيها، الأماكن التي يسمع فيها الدعاء، وأرجى لقبول الرجاء، وأدعى للاستجابة، ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (البقرة:186)، وعمَّار المساجد مستجيبون لله (جل شأنه) مقبلون عليه، ملقون بهمومهم وحاجاتهم بين يديه سبحانه، وهو سميع الدعاء مجيب الرجاء، غافر الذنب وقابل التوب.

فإذا أدركنا أنَّ مساجدنا بهذه المثابة فذلك يعني أنَّها تتحول إلى مواضع وأماكن لراحة النفس ونقاء السريرة، والإخبات والقنوت لله (جل شأنه)، ذلك هو المسجد، ورسول الله (صلوات الله وسلامه عليه) كان يجد راحة قلبه وسعادة نفسه في كل ما كان يعانيه من شقاء، وهو يدعو قريشًا للاستجابة لنداء الله (جل شأنه)، الذي كلَّفه بدعوتهم للاستجابة له، كان يلجأ إلى البيت الحرام الذي كان يعلم أكثر من غيره أنَّه أول بيت وضع للناس ببكة، وأنَّ من أمر ببنائه وإقامة قواعده هو جداه إبراهيم وإسماعيل، وأمرا بمناداة الناس كافَّة لاتخاذه مصلى، والطواف به والاعتكاف فيه، والركوع والسجود في بقعته الطاهرة، فإنَّ النفوس لا تستطيع أن تعيش بالتجريد وحده، بل تنزع دائمًا إلى شيء من المحسوس، يجعلها أقدر على اجتياز حاجز التجريد، فكانت المساجد هي البيوت المباركة التي تنتسب إلى الله (جل شأنه) من حيث إقامتها، وتنتسب إلينا من حيث إشغالها بالطواف والركوع والسجود والدعاء والذكر والتعلم والتعليم وما  إلى ذلك، وقد سن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بتوجيه من ربه منهج بناء المساجد وكيف نشغلها ونقوم قانتين لله فيها، لنعيد التوازن إلى نفوسنا التي قد تهيمن عليها الشوائب نتيجة انشغالنا بشئون وشجون الحياة، فإذا جئنا المساجد وضعنا كل ذلك جانبًا وتوجهنا إلى الكبير المتعال، قائلين: “الله أكبر”.

فالله أكبر من التجارة ومن البيع ومن الشراء، وأي شيء مما قد يشغل الإنسان، وقد حافظ أسلافنا على المسجد وعرفوا له قدره واحترموا دوره، وجعلوه مثابة لهم في كثير من الشئون والشجون، واتخذوه مكانًا للعلم والتعلم، وغرس القيم والتذكر، وتحقيق حالة الألفة بين المؤمنين، فإنَّ تنافس الناس في شئون الحياة وشجونها قد يوجد أنواعًا من الانحرافات من حسد وبغي وخصومات وخلافات، لكن الناس إذا جاؤوا المسجد عادوا جميعًا عبَّاد لله (تبارك وتعالى)، يؤلف بين قلوبهم، ويزيل العداوات والخلافات من بين صفوفهم، ويذكِّرهم بوحدتهم بين يدي الله، وأخوَّتهم في الآدمية: “كلكم لآدم وآدم من تراب”، وصلابة هذه الأخوَّة وقوتها بعبادة الإله الواحد (جل شأنه)، والإيمان به، والتوجه لنيل رضاه، وتذكر الوقوف بين يديه، وبذلك يستعيد الإنسان توازنه الذي يكون مهددًا وهو يتقلَّب في الأسواق يمارس مختلف شئون وشجون الحياة.

وما ذكرناه هو الإطار العام لرسالة المسجد الذي ينبغي أن يكون ملاحظًا في كل عصر ومصر عندما تذكر المساجد ورسالتها، وللمساجد أهداف ومقاصد كثيرة جدًا، تلحق بها مجموعات كثيرة من الفوائد التي لا حصر لها، ولتتحقق رسالة المسجد بالشكل الذي نتمناه جميعًا لابد لنا من معرفة أنَّ دور المسجد ورسالته لا ترتبط ببنائه، وشكله فقط، بل إنَّها تقوم على مجموعة من الأركان والشروط التي لابد من ملاحظتها عند الحديث عن المسجد ورسالته.

فالأركان هي: الخطباء والوعَّاظ، والمؤسَّسات الراعية لهم، والمساجد، والمواد المقدمة من خلال هذه العناصر للجمهور، ولكلٍ شروطه حتى يؤتي أكله.

والغايات هي: توصيل رسالة الحق إلى الخلق.

شروط الخطيب أو الواعظ: أن يكون ملمًا بالعلم الشرعي وجانب من العلوم الأخرى، وأن يكون مخلصًا في دعوته، لا يرجو منها غير وجه الله (تعالى)، وأن يكون مرتبطًا بالواقع الذي يعيشه الناس، واعيًا به، قادرًا على الارتقاء بوعي رواد المسجد إلى المستوى الملائم لنشر رسالة المسجد، والوعي بها، والارتقاء بمستوى رواد المساجد المعرفي والثقافي والسلوكي، مستفيدًا من كل ما في العصر من إمكانات إيجابيَّة لتحقيق هذا الهدف.

شروط المؤسَّسات الراعية للخطيب: أولًا: قدرتها على تهيئة وإعداد المسجد والإمام والخطيب خير إعداد لتوعية الناس، ورفع مستوى ثقافته. ثانيًا: مساعدة المؤسَّسات الأخرى، وحسن التعاون معها لمقاومة سائر الآفات التي قد يتعرض المجتمع لها في مختلف الظروف، من جهل ومرض وأوبئة وفقر وحاجة وما إليها. فالمسجد ينبغي أن يكون منارة للحي الذي يقع فيه، وموئلًا لأهله، وموقعًا ملائمًا، وما لم تكن وراءه مؤسَّسات تعرف له قدره وتقدر رسالته وتعرف كيف تستفيد منه لصالح الأمَّة والمجتمع فلن يكون سهلًا عليه ولا على القائمين عليه أن يؤدوا الرسالة، ويقوموا على الأمانة التي أأتمنوا عليها.

شروط المسجد: أن يكون موقعًا قابلًا لأن يكون مؤسَّسة تعليم وتثقيف وتدريب وتوعية وتوثيق لعرى الروابط بين أبناء المجتمع، مثلما هو مكان صلاة وعبادة، وينبغي أن نجنبه كل ما يسيئ إلى رسالته أو يقلل من أهميَّته، أو يضعف إمكانات الاستفادة به ومنه.

شروط المواد المقدمة للجمهور: أهم شيء نقدمه أن نشعر كل من في المجتمع بأهميَّته، وأهميَّة دوره، ومسؤوليَّته الإنسانيَّة في الحياة. فالمسؤوليَّة هي الدعامة الأساسيَّة التي تقوم عليها النظم الأخلاقيَّة والسلوكيَّة، وما إليها، وبدون ذلك فإنَّ من الصعب أن يقوم للمجتمع نظام أو يستقيم سلوك.

وتتلخص رسالة المسجد في التأثير على الناس إيجابًا على كافة الأصعدة، وهذا لن يتأتى إلا إذا أعد له خطباء ووعاظ ومدرسون على درجة كبيرة من العلم والعمل والتقوى معًا وإدراك وخبرة في الواقع، فما خرج من القلب وصل إلى القلب، وما خرج من اللسان لا يتجاوز الأذان، ويجب أن يؤمن الخطيب أنَّ عمله ليس مجرد وظيفة يتقاضى عليها أجرًا وإنَّما هي رسالة حياة، وطريق وصول إلى الحياة الطيِّبة في الحياة الدنيا، وبلوغ الجنَّة في الآخرة.

أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.

ثم أمَّا بعد:

إنَّ مشكلات الناس اليوم مشكلات عديدة، واحتياجاتهم كثيرة، وهم يتوقعون من المساجد ودور العبادة الكثير لمعالجة المشكلات، والاستجابة للتحديات، فماذا لو اهتم رواد المسجد بتلك التحديات، وساعدوا المجتمع على تجاوز تلك المشكلات التي ينجم بعضها عن الفقر، فيكون في المسجد إحصاء لفقراء الحي، وذوي الحاجة فيه، ويقوم المصلون بتوجيه من إمام وخطيب المسجد بتقديم ما يستطيعون؛ لسد احتياجات المحتاجين، عملًا بقول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): “أيما أهل عرصة ظل فيهم امرؤ مسلم جائعا فقد برئت منهم ذمة الله”.

 وهناك مرضى لا يجدون الدواء ولا يجدون ما يحملهم إلى المستشفيات أو الأطباء، فماذا لو عني المسجد بمثل هؤلاء، ونظَّم رواده من أهل الخير ما يساعد على هذا؛ فنخفف الضغط عن مستشفياتنا، ونعين إخواننا وأبنائنا ومواطنينا، ونقدم لهم من خلال المسجد خدمة كبيرة ضروريَّة للكثيرين، وكذلك الحال بالنسبة للمساعدة في قضايا التعليم، فماذا لو خصَّص المعلمون والمدرسون الأتقياء بعض أوقاتهم لتقوية الطلاب والأبناء في بعض الدروس، التي يتقاضى البعض عليها أموالًا تحت عنوان الدروس الخصوصيَّة، وهناك من لا يستطيع أن يقدم لأبنائه دروسًا كهذه أو القيام بتكاليفها، فماذا لو قام المسجد بهذا الدور، بحيث يعقد متطوعون أو أناس يتبرعون ببعض أوقاتهم لتقديم دروس للتقوية، تساعد الأجهزة التعليمة في البلاد في سد هذه الحاجة والقيام بها، وبذلك تصبح مساجدنا كما كان مسجد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مصدر إشعاع خير وبركة للمجتمع كله.

ولقد رأينا كنائس في أمريكا وفي أوروبا تقدم من الخدمات ما لا يحصى للمحيطين بها، بحيث صارت تستوعب ما تقدمه دور الخدمة الاجتماعيَّة وتزيد عليه، بحيث صارت تستقطب المتدينين وغير المتدينين، بل قد يؤمها ملحدون؛ لأنَّهم يجدون فيها تلبية لكثير من احتياجاتهم. ونحن نأمل بأن يقدم المسجد لمجتمعنا هذا كل ما هو بحاجة إليه، ليصبح سندًا حقيقيًّا لسائر أجهزة ومؤسَّسات التعليم والصحة والخدمة الاجتماعيَّة وما إليها.

اللهم اهد المسلمين جميعًا لكل خير، ووفقنا لبلوغ مرضاتك، وارزقنا الإخلاص في القول والفعل والعمل ﴿ إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (النحل:90).

أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *