أ.د/ طه جابر العلواني
في البيئآت المؤمنة التي آمنت بالله وبأسمائة وصفاته وألوهيَّته وربوبيَّته، وعرفته بذلك معرفة جعلتها تؤمن بالله (جل شأنه) إيمانًا عميقًا، وآمنت برسله كلهم، وعرفت ما يجب عليهم، وما يستحيل أن يصدر عنهم، وما يجوز، وتلت في كتاب الله (جل شأنه) قصصهم، وعرفت جهادهم في هداية البشريَّة، وآمنت بكتب الله (جل شأنه) كما أنزلت على رسله الكرام، وآمنت بأنَّ لله مخلوقات أخرى نعرف بعضها ونجهل الكثير منها، فعلينا أن نؤمن بكل ما أخبرنا به في كتبه المنزلة، وصحفه المطهرة، وآمنت باليوم الآخر، وأنَّ الله يقضي أجلًا وأجل مسمى عنده، وأنَّ المرجع إليه (سبحانه)، وأنَّه محاسب الناس ومجازيهم على كل ما فعلوا أو يفعلون، ومن عمل صالحًا في هذه الحياة الدنيا؛ مثل هؤلاء يستطيعون أن يفهموا أنَّ هذه الحياة الدنيا مزرعة للآخرة، وأنَّ فيها الخير والشر، والظلمات والنور، والظل والحرور، والحسن والقبيح، ويعيش فيها الصالحون، كما يعيش فيها الطالحون، لا يمنع الله نعمه عن أي من الفريقين، ﴿وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ﴾ (هود:6).
هؤلاء الذين يؤمنون بكل ما سلف، ويفعلون الخيرات، ويقيمون الصلاة، ويعبدون الله لا يشركون به شيئًا، هؤلاء إذا جاءهم أمر من الخوف أو الجوع أو الأمراض صبروا، وإذا جاءتهم النعم شكروا، فلا تجتالهم المصائب عن حب الله، والإيمان به، ولا تزيدهم النعم طيشًا أو غرورًا، بل كل ذلك يزيدهم إيمانًا وصبرًا وشكرًا، ويجعلهم الأقدر على إدراك أن َّكلًا من عند الله، فيجدون تفسيرًا لكل حدث، ومعرفة بكل ظاهرة، ولا يزيدهم شيء من ذلك إلا إيمانًا وتسليمًا.
وهناك أناس خفاف يعبدون الله على حرف، إن جاءهم خير اطمأنوا به، وإن أصابتهم فتنة انقلبوا على أعقابهم، هؤلاء ضعاف الإيمان، مرتبكو النفوس، إذا أصابهم الخير قالوا: ﴿قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي ..﴾ (القصص:78)، وانتفخوا ومشوا في الأرض مرحًا، وإن أصابهم الضر نسبوه إلى أنبيائهم أو رسلهم، وتنكروا لخالقهم، فهؤلاء مطايا الشياطين، ومراكب إبليس وجنده، يسول لهم الشيطان في لحظات الضعف، ويوسوس لهم أنَّ الله قد تخلى عنكم، ونصر عليكم أعداءكم، وضن بنعمه عليكم، وخذلكم؛ فينقلبون على أعقابهم، ويكفرون بنعم ربهم، ولا يدركون أنَّ ما أصابهم من حسنة فمن الله، وما أصابهم من سيئة فمن أنفسهم وسوء اعتقادهم، وخبث أعمالهم، وسوء تصرفاتهم، ﴿مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ ..﴾ (النساء:79)؛ فتراهم يتنكرون لدينهم ويغضبون من خالقهم (جل شأنه)، وينسبون كل ما أصابهم من سوء إليه (سبحانه) وإلى تمسكهم به، وهؤلاء يرون أنَّه ما داموا قد سموا أنفسهم بالمؤمنين أو المسلمين فقد أدوا ما عليهم، وقاموا بما أمروا به، وعلى الله بالتالي أن ينصرهم، ويقاتل عنهم، ويعلي شأنهم على الدوام؛ فتظهر نزعات كفر، وبوادر انحراف وإلحاد، وتنكر لدين الله، وتناس وتجاهل لنعمه التي لا تحصى عليهم.
هؤلاء الذين يستلم الشيطان قيادتهم، ويروح ويغدوا بهم في مسالكه المعوجة، ويوم القيامة يقف ليقول لهم ما حكاه الله عنه: ﴿وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ (إبراهيم:22).
ولقد شهدنا أمثال ذلك في العراق في أوقات مختلفة، وما زلت أذكر حينما قام عبد السلام عارف وأنصاره وحلفاؤه من البعثيين بالانقلاب على عبد الكريم قاسم، في الرابع عشر من رمضان/فبراير لسنة 1963، وكان كثير من العراقيين وخاصَّة حملة الأفكار اليساريَّة وبعض الشيوعيين يدافعون عن عبد الكريم ونظامه؛ فقتل الكثيرون وألقي القبض على عبد الكريم قاسم في الخامس عشر من رمضان؛ فأفطر آلاف من العراقيين، وأعلنوا ترك الصلاة والصيام معًا؛ لأنَّ الله لم يثأر لعبد الكريم قاسم، ولم يقف معه، بل نصر عليه هؤلاء.
وسرت موجة من التنكر للدين في تلك الفترة، وتكرر ذلك عدة مرات في أحداث مماثلة، فالناس قد فقدوا فكرة مراقبة أنفسهم ومحاسبتها، ومساءلة أنفسهم عن الشرور التي أحدثوها، والذنوب التي ارتكبوها والمخالفات التي عملوها، وأنَّ ما آلت إليه أوضاعهم إنَّما هو جزاء عادل لا على سبيل تعجيل العقوبة الأخرويَّة في الدنيا، بل لأنَّ تلك الانحرافات لابد أن تؤدي إلى انهيار في الأوضاع، وإلى كثير من الفتن، والمشكلات، وإلى نقص في الأموال والأنفس والثمرات، ويفترض أنَّ الناس يلتفتون آنذاك بعد أن يذوقوا العذاب الأدنى إلى أخطائهم وانحرافاتهم، ويرجعون إلى الله ويتوبون إليه، لعل الله (جل شأنه) يبيد النقم، ويعيد إليهم النعم، ويحيون حياة طيبة.
لكن هذا النوع من البشر لا يفعل ذلك، بل يوجه اللوم إلى ربه (جل شأنه) وإلى خالقه (تبارك وتعالى)، الذي لا تنفعه عبادة العابدين، ولا يضره عصيان العتاة والملحدين، ولا تمرد العصاة والفاسقين، واليوم بعد كثير من الأحداث التي حدثت في العراق وسوريا وليبيا وغيرها؛ يحتاج الناس إلى وقفة مع الذات، ومحاسبة لأنفسهم، ومراقبة لها، وتوبة صادقة نصوح إلى الله (جل شأنه)، وتجفيف لمنابع الإلحاد، والتنكر إلى الدين، وتفسير ما حدث تفسيرًا دقيقًا، تظهر فيه مسئوليَّات الناس عما أحدثوا أو فعلوا وارتكبوا؛ ليتوبوا إلى الله ويستغفروه.
وما أروع استحضار الآيات الكريمة التي تبيِّن أنَّ الله (جل شأنه) ما كان ليهلك قرية إلا وأهلها ظالمون، وقصص الأنبياء والرسل مع أقوامهم أقوى دليل على ذلك، قال تعالى: ﴿وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ * وَلَقَدْ جَاءهُمْ رَسُولٌ مِّنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ﴾ (النحل:112-113)، ﴿وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِدًا﴾ (الكهف:59)، ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ﴾ (القصص:59)، ﴿وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُم مِّنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ * فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ﴾ (الأحقاف:27-28)، ﴿ذَلِكَ أَن لَّمْ يَكُن رَّبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ﴾ (الأنعام:131)، ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ﴾ (هود:117)
إنَّ تدبر مثل هذه الآيات يبيِّن عدالة الله (جل شأنه) في الناس، وأنَّه (تبارك وتعالى) لا يظلم الناس شيئًا، ولكن الناس أنفسهم يظلمون، ﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ (يونس:44)، فمن أراد إصلاح الأمور ورفع البلاء وكشف الضر فإنَّ القرآن قد رسم الطريق إلى ذلك، وهو طريق مستقيم، يبدأ بالوعي بحجم ومدى وتفاصيل الانحرافات التي سقط فيها الناس، والعلاقة بين تلك الانحرافات والذنوب والسيئات والبلايا والمصائب التي حدثت، فإذا وعى الناس بذلك، وعرفوا أنَّ المصائب والمصاعب والأزمات والمشكلات لم تأت من فراغ، بل هي من عند أنفسهم، وصمموا على مقاومتها والخروج منها؛ فليبدأوا بعد ذلك الوعي بها بالتوبة إلى الله منها، وتغييرها، والعودة إلى طريق الله، والاستقامة عليه، ورد المظالم، وإقامة العدل، والانتصار للضعيف والمظلوم وذي الحاجة، وإيصال هؤلاء إلى حقوقهم، آنذاك يعود لهم الأمن: ﴿الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ﴾ (الأنعام:82).
فنسأله (سبحانه وتعالى) أن يهدينا وإياكم إلى سبل السلام، وسبل النجاة، والخروج من ظلمات الفرقة والانحراف إلى نور الألفة والاستقامة، إنَّه سميع مجيب.