أ.د: طه جابر العلواني
حين غادرت العراق مساء يوم 26/6/ 1969 من القرن الماضي للنجاة بنفسي بعد أن علمت بأنَّ اسمي قد وضع على قائمة التصفيات الجسديَّة (الإعدام) لنظام البكر صدام، كانت محطتي الأولى القاهرة ثم بيروت، كان أملي مثل آمال معظم المعارضين لذلك النظام أنَّه ساقط لا محالة في غضون شهرين أو ثلاثة بالكثير، وأنَّني سأعود إلى بلدي وأهلي وموقع عملي في حدود تلك الفترة، نزلت أبحث عن بعض الكتب في مكتبات بيروت، فدخلت مكتبة (مُنَيْمِنَة) في وسط البلد آنذاك؛ فوجدت كتبًا كثيرة مما أحتاجه، ولفت نظري في زاوية من المكتبة مجموعة من القطع التي ألف الناس أن يعلِّقوها في منازلهم، منها: “اتق شر من أحسنت إليه” و”من استوى يوماه فهو مغبون”، وذلك أمر عادي، ثم نظرت لأجد بين القطع واحدة وقفت عندها طويلًا؛ لأنَّ العبارة التي كتبت فيها عبارة مستفزة لم أسمعها من قبل ولم آلفها، كما أنَّني في ظرف نفسي كان يحتاج إلى التفاؤل لا إلى التشاؤم.
ونحن نعرف أنَّ القرآن الكريم قد علَّمنا أنَّ العسر بين يسرين، يسر يسبقه ويسر يعقبه، ﴿فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا﴾ (الشرح:5-6) لكن هذه القطعة تقول: “ما بعد الضيق إلا الخوازيق”، فاستبدلت الفرج بالخوازيق، وذلك موضع الطرفة فيها. فطلبت القطعة من البائع فلم يجد إلا واحدة قال هذه للعرض، فأصررت أن أدفع ثمنها وآخذها، ومضيت بها وأنا محتار ما الذي يجعل خطاطًا وصاحب مكتبة وآخرين يشترون مثل هذه القطعة؟ بحيث كلما جاء صاحب المكتبة بكميَّة منها تباع على الفور وتبقى القطع الأخرى، فلم أجد تفسيرًا لذلك إلا حالة إحباط كانت تعم الناس بعد قيام دولة إسرائيل وسقوط فلسطين التاريخيَّة، رغم ما حاول العرب القيام به من حرب ضد تكتلات يهود، بقطع النظر عما شابها من الشوائب. وهذا النوع من الجراحات النفسيَّة نوع خطير، يجعل الجماهير في حيرة وإحباط وضيق بالواقع الذي تعيشه ويأس، فإذا قيَّض الله لها من يعطيها الأمل بصدق وبجد، ويحقق لها انتصارًا عاجلًا؛ فذلك سوف يعالج جراحها، ويعيد إليها شيئًا من الأمل!.
ولقد جرت محاولات بعد ذلك وقبله من الرئيس الراحل عبد الناصر وشكري القوَّتلي حين أعلن وحدة مصر وسوريا، وتشكَّلت الجمهوريَّة العربيَّة المتحدة، وكاد العراق أن ينضم إليها؛ ليكون الإقليم الشرقي إلى جانب الإقليم الشمالي السوري والإقليم الجنوبي المصري، ولكن جرت الرياح بما لا تشتهي السفن، فحين حدث ما حدث للوحدة، وحدثت حرب اليمن، وقامت الانقلابات في الشام وفي العراق تجدد الإحباط، ثم جاءت كارثة الخامس من يونيو لتبدد آمال ذلك الجيل كلها، وتفتح أبواب القلوب والعقول إلى مزيد من الإحباط، واليأس، والشعور بالعجز، وسيطرة الشكوك على نفوس الشباب بكثير من الفئآت والقيادات والإيدلوجيات والشعارت، فكأنَّ شعار: “ما بعد الضيق إلا الخوازيق” صار هو التعبير الصادق الذي يلخِّص الجراحات النفسيَّة التي أصابت العرب نتيجة ذلك كله. إنَّنا نرجو أن لا يكون حال الناس بعد الذي جرى في العراق وما زال يجري، وما جرى في سوريا وليبيا وغيرها؛ أن يفرز الخطاطون أو الفنانون فنونًا وخطوطًا تدور حول الخوازيق، فقصائد أحمد مطر وأمثاله من الشعراء ولوحات بعض المبدعين والفنانيين كثير منها قريب جدًا من: “ما بعد الضيق إلا الخوازيق”!.
اللهم يارب العالمين أصلح أحوالنا، وأصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأنقذنا من شر الخوازيق، وصنَّاع الخوازيق، ومروجي الخوازيق، فقد شبعت أمتنا من الخوزقة حتى نالها الإعياء والتعب.