Menu
منهجية التعامل مع التراث الإسلامي - مراجعة لكتاب من أدب الاختلاف إلى نبذ الاختلاف - أُمْنِيّة أهلِ السجود([1]) - The future of Islam in America and west - جانب من جلسات فريق باحثي الأزهر للعمل على وضع منهجية مراجعة التراث - حوار حول الربيع العربي - الإسلام والمسلمون من وجهة نظر غربية - برنامج اخترنا لمكتبتك - معالم في المنهج القرآني - ومضات فكرية

الأمانة في القول والعمل

أ.د/ طه جابر العلواني

الحمد لله نستغفره ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئآت أعمالنا، من يهدي الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلن تجد له وليًا مرشدًا، ونصلي ونسلم على سيدنا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، أنقذنا الله به من الضلالة، وأخرجنا به من الظلمات إلى النور، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعه واهتدى بهديه إلى يوم لقاه.

ثم أمَّا بعد:

‹‹الأمانة›› أن يأمنك الناس على أنفسهم وأموالهم، وعقولهم، وأعراضهم، ودينهم، والأمانات جمع أمانة، وقد أخبرنا الله (تبارك وتعالى) بأنَّه عرض الأمانة وتحملها، والمسئوليَّة عن أدائها على السموات والأرض والجبال؛ فأبين أن يحملنها وأشفقن منها، وحملها الإنسان إنَّه كان ظلومًا جهولًا: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا﴾ (الأحزاب:72)، فلِمَ عرض الأمانة بهذه الطريقة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها، ويحملن مسئوليَّة القيام بها، وأداءها إلى من ائتمنهم عليها؟ لأنَّها شأن عظيم وأمر خطير، لا يقل عن معرفة الله (جل شأنه) وتوحيده والإيمان بكتبه ورسله، بل هو جوهر الرسالات، وغاية المقاصد والغايات؛ ولذلك كانت بهذه المثابة.

 وكأنَّ الله (جل شأنه) يبيِّن للإنسان الجريئ جدًا الظلوم الجهول أنَّه قد حمَّل نفسه ما لم تجترئ السموات والأرض والجبال على قبول تحمله، وقبول المسئوليَّة عن أدائه إلى أهله، ولكن الله (جل شأنه) بعد أن تحمل الإنسان هذا العبء وتصدى لهذه الفريضة؛ أدرك الإنسان برحمته، واقتضت حكمته اللطف به، وإعانته على ما احتمل إذا طلب ذلك وتصدى له أو رغب فيه، فلم يتركه وحده وهو الأعلم (جل شأنه) بعظم الأمانة وخطورتها، فهو إذ أمره بأدائها ونهاه عن التفريط بها؛ بيَّن له أن عليه أن يستعين بالله (جل شأنه) على أدائها، ويراقبه على الدوام ليمكنه من ذلك، ويكثر من ذكر الله، والاستعانة به بطريق الصلاة والصبر على أداء الأمانات.

        فما هي الأمانات؟ أبناؤنا أمانة لدينا علينا أن نقيهم النار، وأن نمنعهم من السقوط فيها، فإذا فرطنا بالأبناء ضيعنا الأمانة، وخناها، وكفى بالمرء إثمًا أن يضيِّع من يعول، وأن يضيِّع من ائتمنه الله عليه وقال له: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (التحريم:6). والزوجة أمانة في عنق زوجها، فكما استحل منها ما استحل بشرع الله فإنَّه قد ائتمنه عليها، وأمره ونهاه؛ ليحسن معاملتها، ويحفظ حقوقها، ويعينها ويستعين بها على طاعة الله (جل شأنه)، والقيام بما افترض الله عليه، فإن هو لم يفعل وضيَّع حقوقها وفرَّط فيها فقد خان الله ورسوله، والعقد الذي أبرمه على نفسه، والعهد الذي عاهد الله عليه. والزوج أمانة بيد زوجه لابد لها أن تحفظه وتصونه، فتحفظه في ماله، وتصونه في عرضه، وتحمي له أولاده، وتقيم معه هذه الوحدة الصغرى من وحدات المجتمع ألا وهي الأسرة وفقًا لحدود الله، واتباعًا لهدي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).

        والسلطة بكل أنواعها ومستوياتها أمانة، فرئيس الدولة مؤتمن على شعبه كله، أنفس الشعب وأموالهم وعقولهم وقلوبهم وأعراضهم وأبناءهم وسعادتهم وتجنيبهم الشقاء، وأديانهم ومقدساتهم، بل هو مؤتمن على الطيور والأنعام والبيئة في ميدان حكمه، فإذا فرَّط بشيء من ذلك فقد خان الأمانة، وغش الأمَّة، وضيَّع الدولة، وفرَّط في حقوق الناس، وقد صرَّح عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) يومًا بأنًّه: “لو أنَّ جملًا على شط الفرات زلق فهلك ضياعًا فإنَّه يخشى أن يسأله الله عنه يوم القيامة لما لم يعبد له الطريق”، فإذا كان الأمر مع الحيوان هكذا فما بالك بالإنسان، ويقول سيدنا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): “دخَلَتِ امرأةٌ النَّارَ في هرَّةٍ ربَطَتْها فلَمْ تَسْقِها ولَمْ تُطعِمْها ولَمْ تُرسِلْها تأكُلُ مِن خَشاشِ الأرضِ حتَّى ماتت في رباطِها ودخَلَتْ مُومِسةٌ الجنَّةَ إذ مرَّتْ على كلبٍ على طَوِيٍّ يُريدُ الماءَ فلا يقدِرُ عليه فنزَعَتْ خُفَّها أو مُوقَها فربَطَتْه في خِمارِها فنزَعَتْ له فسقَتْه حتَّى أَرْوَتْه”، لماذا؟ لأنَّنا مؤتمنون على كل ما في بلداننا، بما في ذلك القطط، والكلاب، والحيوانات الأخرى، ومؤتمنون على البيئة وعلى المياه وعلى الشجر؛ فلذلك كان يوصي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من يخرجون إلى الجهاد بأن لا يقطعوا شجرًا مثمرًا، ولا يقتلوا أطفالًا أو صبيانًا أو من يعتزل القتال، ولا يفسدوا أطعمة ولا مياها لأعدائهم؛ لأنَّ ذلك من قبيل الفساد في الأرض، وحملة الرسالة لم يأتوا ليفسدوا في الأرض، ولا ليهلكوا الحرث والنسل، والمعلم مؤتمن على طلابه، والطلاب مؤتمنون على دراستهم، والجميع مسئولون عن المحافظة على مدارسهم ودور تعلم العلم فيها من جامعات وغيرها، فهي أمانات بأيدي أهلها ليس لأحد أن يضيع الأمانة أو يفرِّط فيها.

        وهكذا تتعدد الأمانات لتشمل الناس كافَّة، فما من أحد إلا وهو مؤتمن على شيء، وغيره مؤتمن عليه، والجميع مطالبون أمام الله (جل شأنه) بأداء الأمانات إلى أهلها: ﴿إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا﴾ (النساء:58)، كل بحسب ما أؤتمن عليه، فالجندي مؤتمن على سلاحه، مؤتمن على حماية بلده، أرضها وسمائها ومياهها وإنسانها وحيوانها وكل شيء فيها، والشرطي مؤتمن على أمن بلاده، مسئول عن المحافظة عليها، لا يجور ولا يظلم، ولا يفسد ولا يخرب، والقاضي مؤتمن على العدالة في بلاده، والطبيب مؤتمن على معالجة مواطنيه، وحمايتهم من الأمراض وكل ما يمكن أن تتولد عنه، والعالم مؤتمن على عمله وعلى مخبره، والفقيه مؤتمن على مسجده ورواده، والخباز مؤتمن على مخبزه وأن لا يقدم لطعام الناس خبزًا مغشوشًا، والجزار مؤتمن لا يقدم للناس لحمًا فاسد، أو محرمًا، والفلاح مؤتمن والعامل مؤتمن، والمواطن مؤتمن على صوته في الانتخابات فلا يعطيه إلا لمن يستحقه.

        وهكذا تصبح الأمانة أمرًا شائعًا، بحيث تنتظم أبناء المجتمع كافَّة، فما منهم إلا مؤتمن أو مؤتمن عليه، ومن أفلت من المسئوليَّة والعقاب في الحياة الدنيا فإنَّ الله يسمع ويرى، ولن يفلت من عقابه أحد في الدار الآخرة، ومن هنا تصبح الأمانة شقيقة الإيمان لابد أن تدخل كل قلب، وكل جارحة من جوارح الإنسان، فإن لم يحدث هذا وخان الناس أماناتهم وفرطوا بها فلا ينتظر إلا الفساد والهلاك والاضطراب بكل أنواعه، وإذا استبد بأمَّة الخوف والجوع والنقص بالأموال والأنفس والثمرات فليعلم الناس أنَّ هناك تفريطًا بالأمانة وتضييعًا لها، وإذا اختفى العدل وانتشر الظلم فليعلم الناس أنَّ هناك تفريطًا بالأمانات، فليؤد كل من أؤتمن أمانته وليتق الله ربه، ولا يبخس منه شيئا، ﴿.. فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللّهَ رَبَّهُ .. (البقرة:283) وإذا عمَّت الفتن فذلك يعني أنَّ وراء انتشارها تضييعًا للأمانات، وسقوطًا في الخيانات من سائر الأنواع.

        ونحن في أيامنا هذه أحوج ما نكون إلى التوبة والاستغفار والرجوع إلى الله (جل شأنه) ومحاسبة أنفسنا، وليعلم الناس أنَّ الفتن والعقوبات الجماعيَّة والنقص في الأموال والأنفس والثمرات والابتلاء بالأمراض كل تلك الأمور لا يمكن أن ترفع حتى يؤدي كل من أؤتمن أمانته، ويتقي الله ربه، ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (الروم:41)، وظهور الفساد وانتشاره وتلويثه للبر والبحر والجو لن يختفي ولن تشفى الأمَّة منه إلا إذا قامت بأداء الأمانات إلى أهلها، وجففت منابع الخيانة بكل مستوياتها، وعاد الوئام بينها وبين ربها، وذلك يحتاج إلى مراجعات مستمرة فرديَّة وجماعيَّة، يحاسب كل منا نفسه عما أؤتمن عليه، وهل أدى الأمانة إلى أهلها، أو خانها وفرَّط فيها، فمن وجد خيرًا فليحمد الله (جل شأنه)، وإن وجد غير ذلك فليتب إليه، وليستغفره.

        إنَّ بلادنا اليوم أحوج ما تكون بكل أبنائها وبناتها وشيوخها وأطفالها إلى مراجعة الأمانة وإعادتها إلى جذور القلوب، والإلتزام بها، فبدونها لن يتحقق الأمن ولا السلام الاجتماعي ولن تزول الفتن، ولن نشفى من الأمراض التي تحاصرنا من كل صوب، ولن نقترب من الحياة الطيبة.  

أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.

ثم أمَّا بعد:

إنَّ الأمانة لتكون شاملة للقول والعمل فلا ينبغي أن يقول الإنسان قولًا إلا القول السديد، ولا يفعل فعلًا إلا الفعل الرشيد، ولا يطأ موطئًا، ولا يرفع قدمًا ولا يحرك يدًا إلا وهو مطمئن أنَّه يفعل ذلك بكل أمانة، والأمانة أحوج ما تكون إلى إحياء الضمير الفردي، فالأمانة لا تتحقق برقابة خارجيَّة، ولا بفرض سلطوي، ولكنَّها تتحقق طوعًا إذا أيقن القلب بوجوبها وضرورتها، وفرضيَّة القيام بها والإلتزام بأعبائها، فإن هو فعل ذلك فإنَّ بركة ذلك سوف تظهر في قوله وفي عمله.

لقد ابتكرت البشريَّة اليوم وسائل كثيرة لتبلغ بها ما يريد الناس قوله من فضائيَّات وتلفاز وراديو وسواها، والكلمة أمانة فلا ينبغي أن تستعمل هذه الأجهزة والوسائل إلا بمنتهى الحذر والأمانة والدقة والصدق، فرب كلمة يقولها الإنسان لا يلق لها بالًا تهوي به سبعين خريفًا في قعر جهنم، سواء كتبت في صحيفة أو كتاب، أو قيلت في جمع أو محفل، أو في فضائيَّة أو ما شاكل ذلك، وكذلك العمل، فهناك أعمال تظهر الخيانة فيها كما تعلمون، وقد عرضنا لبعضها في خطبتنا الأولى، وهناك أعمال كثيرة يستطيع كل منا أن يلاحظها في عمله وأعمال الآخرين؛ لذلك فإنَّنا أحوج ما نكون إلى أن نعيد بناء الأمانة في قلوبنا وعقولنا، في أقوالنا وأفعالنا، حتى تصبح صفة قائمة بذواتنا؛ ليتحقق فينا قول الله (جل شأنه): ﴿..كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (الفتح:29)، فيحتار أعداؤنا فينا، ويملأ قلوبهم الغيظ دون أن ينالوا منا، ﴿وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاء وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (الروم:4-5)، فأهم أنواع النصر أن تنتصر على نفسك وشهواتك، وتوطن نفسك على طاعة الله (جل شأنه)، وطاعة رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم).

اللهم ألزمنا الأمانة، ووفقنا للإلتزام بها، وجنبنا الخيانة، وأهلها، والداعين إليها، والمتساهلين فيها، وأعز اللهم الإسلام والمسلمين، وأعلى بفضلك كلمتي الحق والدين، واحفظ بلادنا من الفتن ما ظهر منا وما بطن، ومن الخيانة، وتضييع الأمانات، إنَّك على ذلك قدير وبالإجابة جدير.

أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *