أ.د/ طه جابر العلواني.
السلام عليكم أيُّها الحكيم…
رد الحكيم: وعليك السلام يا بني.
كنت قد وعدتني في لقائنا السابق أن تكمل لي التفصيل في أمر المرض الثالث الذي فتك بأمَّتنا، وكيفيَّة العلاج منه، فهلا زدتني من علمك؟
قال الحكيم: اسمع يا بني، أمَّا المرض الثالث فهو: نفسيَّة العبيد.
وتلك النفسيَّة تكونت إثر المرضين السابقين، “عقليَّة العوام وطبيعة القطيع”، فالنتيجة الحتمية لهما تكون “نفسيَّة العبيد” تلك.
العبيد: هم الذين يملكهم بشر مثلهم ملكيَّة تامَّة كما يملك الأثاث، والمتاع، وذلك هو الرقيق الذي انتهى بشكله القديم في الجاهلية لكنه لا يزال موجودا داخل النفوس.
أمَّا النوع الثاني، فالشعوب التي يستبد بها المستبدون الذين تغلب عليهم نزعات الاستعلاء في الأرض، والغرور، والاستغناء عن البشر، ويوهمون أنفسهم بالتفرد، والتميُّز على عباد الله بأوهام يتوهمونها، فاذا تحكَّم الشيطان فيهم فقد يدَّعون الألوهيَّة، أو الربوبيَّة، أو النبوة، أو الأفضليَّة المطلقة على بقيَّة البشر، فإذا استبد بهم الاستعلاء، والاستغناء أكثر، وأحسوا بانفصالهم عن جنسهم البشري بمالهم من مزايا مزعومة أو أفضلية متخيلة فإنَّهم يتحولون إلى عناصر استبداد، وإفساد، استبداد بكل شىء، وإفساد لكل شىء، وتلك طامَّة كبرى. ولا يكفيهم من أولئك الذين يبتلون باستبداد، واستعلاء وإفساد، بل يجاوزون كل الحدود في محاولات منهم دائمة مستمرة لتدمير إنسانيَّة من يقع تحت أيديهم من عباد الله، وتحويلهم إلى أقرب ما يكون من حالة البهائم السائمة يعتصره اعتصارا، ويستغله دون أن يعترف له بأية ميزة، أو فضيلة.
وأوضح مثل على ذلك فرعون، حين استبد ببني إسرائيل، وعلا في أرض مصر، كيف كان يذبِّح أبنائهم، ويستحيي نسائهم، ويقتل كل من تسول له نفسه أن يتوانى، أو يتخاذل في عبادته إياه، وارضاء غروره.
فكان تأثير ذلك على بني إسرائيل تدمير نفسيَّاتهم، ورسوخ نفسيَّة العبيد بداخلهم، لدرجة أنَّ فرعون يقتل أبنائهم، ويستحيي نسائهم، ولا يحركون ساكنا! بل حينما أراد الله أن يحررهم على يد نبيه، ورسوله موسى، وأخيه هارون كانوا يحنون إلى العبودية، ولا يتخيلون أن لهم قدرة على التحرر من إسارها، أو الفكاك من قيودها.
كانوا كلما ذكِّروا بالله (جل شأنه) والآيات التي منَّ الله بها على موسى، وهارون استهانوا بها، وتمردوا عليها فعبدوا العجل، وارتدّوا ردّة جماعية، وملّوا نزول الطعام الجاهز لهم من السماء، وطالبوا موسى بما كانوا اعتادوه من أطعمة، وهم في أرض عبوديتهم لفرعون، وحاول سيدنا موسى إقناعهم بأنَّه لا يليق بهم بعد أن منَّ الله تعالى عليهم أن يستبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير! وبلغ الجبن بهم أن رفضوا دخول الأرض المقدسة، ﴿قَالُواْ يَا مُوسَى إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُواْ فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ﴾ ﴿المائدة:24﴾
فنفسيَّة العبيد إذن هي نفسيَّة فقدت إنسانيَّتها، ورضيت مقام الذل، فلم تعد قادرة على تجاوز تلك الحالة حتى وهي تتجرع كل سموم المذلة، والإهانة، وتتدحرج على دركات الذل، والعبوديَّة، فهي نفسيَّة حقيرة لا تشعر بذاتها، ولا تدرك قيمتها.
قلت: إذن أيُّها الحكيم، فما علاجها ؟
قال: هذه النفسيَّة تحتاج إلى إعادة صياغة كاملة لتسترد وعيها بذاتها، ولا يمكن أن يتحقق ذلك إلا بوحي إلهيّ، وكتاب حكيم يعيد بنائها من جديد، ويتجاوز بها ذلك المستنقع الآسف. فهذه النفسيَّة المحطمة التي تقبل بالذل، والدنو قد حاربها الله تعالى، ودافع عن المؤمنين بأنَّ لهم العزة فلا يقبلوا ما هو دونها قال تعالى ﴿يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ ﴾﴿المنافقون:8﴾.
وبالأمر المباشر يأمرنا المولى العلي القدير أن لا نقبل بالهوان ﴿وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ ﴿آل عمران:139﴾، فمع استمرار هذه الحالة بين المؤمنين، وتغذيتها حتى في أوقات الحروب التي تكون الحياة فيها أحب شىيء لبني البشر، فهذه هي نفسيَّة المؤمن الحق ، نفسيَّة عزَّة، وعلو لا تقبل المهانة والهوان.
فلله الحمد على إنزاله كلامًا من كلامه إلينا يخرجنا به من الظلمات إلى النور.
﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا * قَيِّمًا لِّيُنذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِن لَّدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا﴾ (الكهف:1-2).
قلت: جزاك الله خيرا أيُّها الشيخ الحكيم على هذا العلم القيم.
قال الحكيم: نفعك الله بما علمت، أما وقد علمت فالزم، وعلِّم من استطعت إليه سبيلا.
قلت: سأفعل إن شاء الله.