Menu
منهجية التعامل مع التراث الإسلامي - مراجعة لكتاب من أدب الاختلاف إلى نبذ الاختلاف - أُمْنِيّة أهلِ السجود([1]) - The future of Islam in America and west - جانب من جلسات فريق باحثي الأزهر للعمل على وضع منهجية مراجعة التراث - حوار حول الربيع العربي - الإسلام والمسلمون من وجهة نظر غربية - برنامج اخترنا لمكتبتك - معالم في المنهج القرآني - ومضات فكرية

حرمة المال العام والخاص

أ.د/ طه جابر العلواني

الحمد لله نستغفره ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئآت أعمالنا، من يهدي الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له وليًا مرشدًا، ونصلي ونسلم على سيدنا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، أنقذنا الله به من الضلالة، وأخرجنا به من الظلمات إلى النور، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعه واهتدى بهديه إلى يوم لقاه.

ثم أمَّا بعد:

فإنَّ الضروريَّات التي لا تقوم الحياة إلا بها ولا تكون حياة إنسانيَّة بدونها عرفتها البشريَّة في أمور خمسة، وعمل البشر عبر التاريخ الإنساني على صيانتها، وحفظها، والحيلولة دون إتلاف أي منها، أو التفريط بها، أو الاعتداء عليها. ووضعت القوانين، ونزلت الشرائع كلها لتحيط هذه الضروريَّات بسياج يحميها ويحفظها ويصونها من الضياع، وهي: “النفس، والدين، والعقل، والمال، والعرض”. فمن أجل حماية النفس وحفظها؛ شرع الله القصاص، وحرم على البشر أن يقتل بعضهم بعضًا، أو يتلف أي منهم عضوًا من أعضاء غيره، وشكَّل سائر الضمانات التي تجعل الإنسان عزوفًا عن القيام بأي عمل ضد النفس الإنسانيَّة، أو ضد أيّ عضو من أعضاء الإنسان. وهناك مجموعة كبيرة من التشريعات في هذا المجال.

وأمَّا الدين فلما له من أهميَّة في حياة الإنسان بلغت حد الضرورة؛ فقد شرع الله (جل شأنه) جملة من التشريعات، من جهاد، وأمر بمعروف، ونهي عن المنكر، ودعوة إلى الله بالتي هي أحسن، وجدال بالحسنى مع المخالفين؛ كل ذلك لحماية حريَّة التدين، وجعل الإنسان قادرًا على ممارسة التدين في حريَّة تامَّة، دون تعرُّض إلى أيَّة مخاطر أو مضايقات تحول بينه وبين حفظ هذا الشأن الضروري له. وكذلك العقل، مَنَّ علينا الله (جل شأنه) بتشريعات لا تسمح بالإضرار بالعقل أو إيذائه، أو التقليل من شأنه بحال من الأحوال، فالمسكرات والمفترات والمخدرات كل أولئك مما نهى الله (جل شأنه) عنه زراعةً وصناعةً واستهلاكًا؛ لأنَّ هذا العقل لابد أن يصان، ويحافظ عليه، ولا يغامر به، ولا يعرَّض إلى المخاطر، فالإنسان بدونه يلحق بالحيوان الأعجم.

 ثم يأتي دور المال، فالمال ضروريٌّ من أهم الضرورات الخمس، جعله الله قيامًا للحياة الإنسانيَّة، ونهى عن تبديده أو إتلافه، أو الإضرار بموارده أو أكله بين الناس بالباطل، أو تداوله بدون وجه حق، وشرع لنا كل ما يحفظ المال على الإنسان، ويعطيه القدرة على الانتفاع به دون نزاع، ودون تأثيرات سلبيَّة. وكذلك العرض، فقد شرعت عقوبات الزنا واللواط والقذف وما إليها، بالإضافة إلى جميع التشريعات في شريعتنا الإسلاميَّة لإيجاد التقوى في القلب الإنساني، وبناء الوازع الذي يحول بين الإنسان وبين ممارسة أي شيء ينافي التقوى، وموضوعنا اليوم هو المال العام والخاص.

إنَّ المال قد جعله الله (جل شأنه) قيامًا لحياتنا ولأنفسنا، فقال: ﴿وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ قِيَاماً وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا (النساء:5)، وما دام الأمر كذلك، فإنَّ المال لابد من المحافظة عليه، وإنمائه، وبذل سائر الجهود للاستفادة من خيرات الأرض، وبركات السماء؛ لتوفيره للفرد والأسرة والمجتمع، والدول، فلا قيام لفرد ولا لأسرة ولا لشعب أو مجتمع أو دولة بدونه، يستوي في ذلك الجميع، ومن هنا كان لابد من إحاطة المال بجميع الضمانات والوسائل التي تكفل حسن الحصول عليه من أفضل السبل وأطيب الطرق، وتوجيهه للاستجابة لحاجات الإنسان الضروريَّة، والحاجيَّة، والتحسينيَّة، وعدم التفريط بشيء منه، أو من موارده، ووجوب كسبه من الحلال، وضمان طهارة موارده، فلا ربا ولا محرمات يسمح بجعلها موارد للمال، أو لإنمائه، بل لابد أن يكون مالًا نقيًّا طاهرًا يكتسب بحقه ويصرف في محله.

 فإذا اكتسب المال من غير طرقه المشروعة التي تجعل منه مالًا حلالًا، أو صرف ووضع في غير محله؛ كان الإنسان آثمًا بذلك بحسبه، فقد تأثم الأمَّة كلها أو الشعب جميعه، وقد تأثم الدولة كلها إذا قصرت في إيجاد مصادر رزق حلال، أو أساءت التصرف فيه، أو وضعته في غير محله، فكما يحرم على الأفراد أن يكسبوا الحرام أو يضعوا أموالهم في غير محلها يحرم ذلك على الأمم والشعوب والدول والحكومات.

 وهناك تقسيمات للمال يمكن ملاحظتها، فهناك مال الله، وكلنا وكل ما نملك ونستخرج من ثمرات الأرض أو نستمطر من خيرات السماء فإنَّه ملك لله (جل شأنه) على سبيل الحقيقة، أمَّا نحن فمستخلفون فيه، لنا حق الانتفاع به بحقه، ولا يقبل الله من أحد صرفًا ولا عدلًا إذا اكتسب بطرق لم يشرعها، فالمال آنذاك يكون حرامًا، وإذا أنفق في سبل لم يأذن الله بها فذلك حرام عليه.

 وأمَّا مال الإنسان، ألا وهو حق الانتفاع فلابد من ملاحظة كل ما قرره الشارع الحكيم في عمليَّات كسب المال، بأن يكون مالًا بذل صاحبه الجهد المناسب المباح المشروع في عمليَّات اكتسابه، فهذا المال مال محترم، هو وصاحبه، ليس لأحد حق الاعتداء عليه، وليس فيه إلا ما جعله الله حقًا له (جل شأنه)، من الحق المعلوم لأهل الحاجة، في زكاة أو صدقة أو إحسان أو تبرع أو ما شاكل ذلك، واكتسابه لا ينبغي أن يدخل فيه حرام لا مال ربا ولا مال يكتسب من المخدرات والمسكرات والمفترات، وما إليها مما هو معروف بداهة، وقد حرم الله الربا والرشوة، والغصب، وسائر الوسائل التي منع الشارع الحكيم منها؛ لئلا يدخل إلى الإنسان قرش حرام، وما نبت من الحرام فالنار أولى به.

وهناك مال عام، أي يملكه المجتمع على المشاع، وتقوم الحكومة أو الدولة بحمايته وحراسته، وإنمائه، واستخراجه، وهذا المال له من الحرمة مثل ما لأموال الأفراد من حرمة، فلا يجوز بحال من الأحوال انتهاك حرمته، أو الاستئثار به دون الآخرين بحجة كونه مالًا عامًا، والفقهاء الذين قالوا بأنَّ يد سارق المال العام لا تقطع؛ لقوله (صلى الله عليه وآله وسلم) ادرأوا الحدود بالشبهات، وأنَّ المال العام فيه شبهة، بأنَّ لهذا الفرد السارق نصيبًا مشاعًا فيه، لا يصلح لأن يكون مسوغًا للتقليل من أهميَّة سرقة المال العام، فالمال العام يجب أن تتوافر على حفظه وحمايته وإنمائه والحيلولة دون تبديده أو الإسراف في إنفاقه طاقات جميع أبناء الأمَّة دون استثناء، فلا ينبغي التساهل في هذا المال، ولا ينبغي أن يدخل الشيطان إلى أي أحد فيوسوس له بأنَّ هناك من يسرق الملايين أو الآلاف، فماذا لو أخذت لنفسك ولأولادك شيئًا من هذا المال؛ فهذا من عمل الشيطان، ومن وساوسه؛ ليضل به هؤلاء الذين لديهم الاستعداد على أن يكون للنار فيهم نصيبًا، أو هكذا يتوهمون في أنفسهم، لكن حساب الله (جل شأنه) على المال العام أكثر بكثير من الحساب على المال الفردي.

إنَّ الموظف العام الذي يعمل لدى الدولة أمين على كل ما تحت يده، فإذا خان الله ورسوله ودولته وأمَّته؛ فخيانته أعظم من خيانته لنفسه، وتعريضها إلى مساءلة الله (جل شأنه) والله (تبارك وتعالى) قال: ﴿وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ (البقرة:188)، فمن يرشو موظفًا بأي مستوى من المستويات لينال ما لا يناله سواه، أو أكثر مما يستحق، بحجة أنَّ هذا مال الدولة أو مال الشعب؛ فإنَّ عذابه عند الله شديد، فالرشوة رشوة، وهي محرمة، ولعن الله الراشي والمرتشي والرائش بينهما، والاختلاس محرم، ومحاباة الآخرين باستحقاقات الدولة أو الأمَّة أيضًا محرم، وكذا غش الأمَّة في مستحقات الدولة من ضرائب عادلة واستحقاقات لا يمكن أن تقوم المصالح العامة بدونها.

ولا يمكن المحافظة على المؤسَّسات إذا لم يكن للدولة ما تنفقه عليها، كل أولئك لابد من أن تكون المسئوليَّة التضامنيَّة للأمَّة والشعب حارسًا دائمًا عليها، لا يسمح بتبديد شيء منها بأي شكل من الأشكال، ولا محاباة فيها، وتحديد المصارف التي ينفق المال العام بها بمنتهى الأمانة والدقة. وليتحقق هذا الأمر لابد أن يكون هناك تساوٍ بين الناس وتكافؤ في الفرص، وتساوٍ في الحقوق والواجبات، فلا يمتاز أحد عن أحد، ولا يستأثر فريق بالمال العام على فريق، بل ينمى ويحافظ عليه؛ ليصرف في مصارفه، ويوضع حيث يجب أن يوضع.

﴿وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ (البقرة:281).

أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.

ثم أمَّا بعد:

إنَّ الله (جل شأنه) قد نهى عن الاحتكار، وحرم الكنز، وتوعد عليه، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ (التوبة:34-35)، كما حرم الغش في كل شيء، فالذين يكسبون أموالهم من مبان غشوا فيها وفي مكوناتها وتنهدم على الناس وتقتل وتشرد الناس، هؤلاء حسابهم عسير جدًا عند الله (تبارك وتعالى).

 وفي عصرنا هذا وجدت مصارف وموارد لابد من ملاحظة كل منها، وعرضها على شريعة القرآن؛ لنعلم ماذا قال الله (سبحانه وتعالى) فيها، وماذا قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عنها، فهناك مكاسب كثيرة محرمة، لا يجوز أن تدخل في كسب المسلم، من ربا، ومقربات للزنا، وما أكثرها، فنحتاج إلى التنبه لهذا النوع من الموارد، والابتعاد عنه، وهناك مصارف كثيرة أيضًا تعد من السفه، والتبذير وإضاعة المال، كلنا مطالبون بالتنبه إليها، وفي عصرنا هذا ألف البعض أن يهربوا أموالهم إلى الخارج، يضعونها بأرقام سريَّة، لا يعرفها إلا هم، وقد يموت أحدهم بعد أن يترك ملايين نهبها أو سرقها من أموال الشعب ثم لا يجد من يأتي بعده وسيلة لاستردادها، وإعادتها إلى أهلها، فتذهب ليستفيد بها أولئك الذين لا حق لهم في شيء منها، وهناك وهناك، مما لا يتسع المقام  لذكره.

فلابد لنا من التضامن والتكافل لحراسة المال العام، والحيلولة دون تبديده، أو حصر الانتفاع به في فئة على حساب فئآت أخرى، فذلك كله يعد من قبيل المنكرات التي علينا جميعًا أن نقف بوجهها، ونحول بينها وبين تبديد أموالنا التي جعلها الله لنا قيامًا، بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، وحشرنا وإياكم تحت لواء سيد المرسلين، ومَنَّ علينا بشفاعته وشفاعة كتاب ربنا فينا، اللهم اهدنا فيمن هديت وعافنا فيمن عافيت، وقنا واصرف عنا شر ما قضيت، برحمتك يا أرحم الراحمين.

أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *