الخطبة الثانية
أ.د.طه جابر العلواني
الحمد لله رب العالمين نستغفره ونستعينه ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ونصلي ونسلم على سيدنا محمد رسول الله وعلى آله وصحبه ومن واهتدى بهديه وتأسى به ومن وَلاَهُ،
ثم أما بعد،
ضرورة الدين للإنسان:
فإن الإنسان منذ أنّ أهبط أبواه من الجنة إلى الأرض بدأ البحث عن ربه وعن الدين الذي عليه أن يتدين به وعن الوسائل التي يمكن أن يتقرب بها إلى الله جل شانه ﴿ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ﴾ (المائدة:27).
وهذه القصة التي وقعت في وقت مبكر من تاريخ الوجود البشري على الأرض تدل على أن هذا الإنسان كائن أودع الله جل شانه فيه ما يجعله بفطرته يبحث عن ربه ليؤمن بألوهيته وربوبيته ويتجه إليه في عبادته ودعائه لأنه بدون ذلك سيعاني من شعور بإغتراب قاتل يفقده طعم الحياة ويخرجه من حالة الإحساس بها ويحول بينه وبين القيام بالوفاء بعهده في عالم الذر مع الله جل شأنه ﴿ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ﴾ (الأعراف:172-173)،
وإذا لم يعرف ربه فانه سيكون عاجزًا لا محالة عن القيام بمهام الإستخلاف: ﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ﴾(البقرة:30)، كما يكون عاجزًا غير قادر على القيام بحق الأمانة: ﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا﴾ (الأحزاب:72)، ولن يتمكن من القيام بإعمار الارض: ﴿…هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ﴾ (هود:61)، وإذا لم يعرف الله جل شأنه فإنّه لن يستطيع النجاح في إختبار الإبتلاء: ﴿ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ﴾ (الملك:2).
وبالتالي فلن ينجح في العبور إلى الجنة بعد إجتياز إختبار الإبتلاء وظهور نتائجه في كتاب ﴿… لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا﴾ (الكهف:49).
الدين والتوبة
حين وقع آدم في المعصية أنقذه الله بالدين مما سقط فيه ﴿فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾ (البقرة:37)،
وأمره الله جل شأنه وأبنائه من بعده أن يهتدوا بهداية الرسل “وإن من قرية إلا خلا فيها نذير”، ﴿… وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلَا فِيهَا نَذِيرٌ﴾(فاطر:24)، ﴿وَمَا أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنذِرُونَ﴾ (الشعراء:208)، فقد اقتضت عدالة الله أنّ يرسل للناس رسلًا مبشريّن ومنذريّن، هؤلاء الرسل اتفقوا في مجال العقيدة والإيمان فعلى مستوى اليقينيّات الخمسة الكبرى لا تخلو منها رسالة واحدة، وأما على مستوى الشرائع فقد اختلفت الشرائع لا في أساسياتها ومقاصدها بل في تفاصيلها وجزئياتها، ذلك لأن أحوال الناس متغيرة وما قد يصلح لقوم قد لا يصلح لآخريين وما قد يصلح لزمن قد لا يصلح لزمن أخر فرحم الله جل شأنه عباده وجعل فيما أنزل من وحي ومن أرسل من رسل وأنبياء مرونة واسعة لكي لا يكون على الناس حرج لو حملوا في مستوى الجزئيّات والفروع على شرعة واحدة.
الفرق بين الدين والتدين:
“والدين” وإن اتحدت حقائقه لكن ممارسته من البشر شئ وحقائقه شئ آخر فالدين في صفائه ونقائه مثل الماء حين ينزل من السماء ينزل صافيًا نقيًا طاهرًا لا تشوبه الشوائب فإذا لامس الأرض وبدأ يسيل فيها أنهارًا وجداول حمل من ترابها وطينها وأوزارها ما حمل وتراه قد تحول إلى كدر وطين وأحيانًا يحمل معه عظام حيوانات نافقة وأخشابًا نخره وأتربة وأحجارًا وما إلى ذلك والبشر أبناء الأرض وأبناء الطين حين يتدينون بالدين فقليلٌ منهم أولئك الذين يحافظون على صفاء الدين ونقائه وهم يمارسون التدين بحقائقه و كثيرًا ما يكون فقهم للدين عبأ على الدين لا خدمة له فبعض المتدينين قد يسيئون إلى حقائق الدين بفهمهم الخاطئ للتدين فيحملوا الأديان ما لا تحتمله ويضيفون إليها ويحذفون منها أحيانًا بجهل مع توافر حسن النية وأحيانًا بسوء نية ومهما يكن من شئ فإن فقه التدين هو فقه بشريّ والتديّن هو ممارسة إنسانية للدين لا تسمو إلى علياءه ولا تبلغ فضائه الواسع فمن لم يؤته الله البصيرة بحيث يفرق بين الدين والتدين فقد يخلط وتلتبس عليه الأمور ويمزج الدين بالتدين وقد يسئُ إلى الدين لأنه ينظر إليه من منظار المتدين به .
الإختلاف بين الناس:
إن الله سبحانه وتعالى قد بين لنا أنه قد أرسل رسلًا كثيرين، منهم من قصهم علينا ومنهم من لم يقصصهم علينا وأن هؤلاءك الرسل كلهم صادقون وإخوة لا يختلفون عن سيدنا رسول الله محمد بن عبد الله –صلى الله عليه وآله وسلم- في شئ قال جل شأنه: ﴿ تِلْكَ آيَاتُ اللّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُواْ فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلُواْ وَلَكِنَّ اللّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ﴾ (البقرة:252-253)، فالذين من بعدهم اختلفوا في فهمهم للدين وفقهم له ومناهج تدينهم به وهذه الإختلافات تكبر أحيانًا وتصغر أحيانًا أخرى ولكنها عندما تكبر قد يصل أتباع الرسول الواحد نتيجة قسوة قلوبهم وطول الأمد بين ما جاءهم به أنبياؤهم وفترات تدينهم بذلك مما يجعلهم يبلغون أحيانًا درجة تكفير بعضهم لبعض والمسئول عن ذلك سوء فهم الناس للدين وفقهم للتدين وإذا كان ذلك يحدث بين أتباع أولئك النبيين بعدهم فما بالك بالأمم التي يختلف أنبيائها ؟!، قد تقع بين تلك الأمم عداوات تبلغ درجة التحارب والتقاتل والتاريخ الإنساني ملئ بالنماذج الدالة على ذلك .
جاء الإسلام وعمل على إحتضان الدين كله ووضعه بين أهم رسولين أولهما إبراهيم عليه السلام وهو الملقب بأبي الأنبياء وثانيهما محمد صلى الله عليه خاتم النبيين فأبو الأنبياء إبراهيم جاء لتأسيس وحدة الدين وبيان أنّ الدين واحد وأنه لله جل شأنه قاد العقل الإنساني بتلك الرحلة الطويلة ليصل إلى أنّ يعلن قوله: ﴿إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ (الأنعام:79) وأسس الملة وبدأ الأنبياء يتوالون على البشرية ويتتابعون حتى استدار الزمن دورته وبعث خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليعلن أنّ الأب واحد فالبشرية واحدة في أصلها وأن الرب واحد إليه يتجه الجميع وأن الجميع لآدم وآدم من تراب فكل البشر أبناء الطبيعة وأبناء التراب وكل الفرق بينهم بعد ذلك في اللون والعرق والجغرافيا والدين والمذهب لا تنفي الأخوة الإنسانية بين البشر فالأخوة الإنسانية تجعل من الفروق كلها إختلافات تنوع لا تضاد ولا تناقض والتنوع يقتضي ويستدعي التعارف لا التنافر والتعارف يستدعي التألف والتأخي و التألف والتأخي يستدعيان التعاون على البر والتقوى لا على الإثم والعدوان وإبراهيم عليه السلام أسس للملة الواحدة وسيدنا رسول الله محمد أسس للبشرية الموحدة أرسل رحمة للعالمين وأنزل عليه الكتاب المصدق والمهيمن على كل ما سبق والهيمنة تقتضي المحافظة والتصديق يقتضي الإعادة إلى حالة الصدق ليكون القرآن الكريم حارسًا حافظًا لكل ما سبقه أو سبق نزوله قبله من زبور وتوراة وإنجيل وصحف أُنزلت على إبراهيم ومن سبقه أو جاء بعده ولذلك أمر رسول الله أنّ يعلن لأهل الكتاب مهمته فقال : ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ﴾ (المائدة:59)، ويقول جل شأنه: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّىَ تُقِيمُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾ (المائدة:68)، وأمر عليه الصلاة والسلام أن يبين لهم لأهل الكتاب ماذا خسروا بابتعادهم عن التوراة والانجيل : ﴿ وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَاء مَا يَعْمَلُونَ﴾ (المائدة:66)، وبين أيضًا أن المتدينين بتلك الأديان والمتبعين لتلك الكتب لن يضيع أجرهم وثوابهم: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ (البقرة:62).
وقال في التوراة جل شأنه: ﴿) إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللّهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ﴾ (المائدة:44)، ﴿ وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فِيهِ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ (المائدة:47)
فذكر جميع الأنبياء والرسل وبكل ذلك الإحترام الذي شاهدنا من القرآن الكريم وذكر الكتب التي أنزلت على اليهود والنصارى بكل تلك الصفات العالية المميزة، وبيّن بوضوح أن الرسالة الخاتمة احتضنت كل ما سبقها وقامت عليه والهيمنة التي تسمح بحفظه بل طالبت من يقولون بأنهم أمنوا بتلك الكتب واتبعوا أولئك الرسل بأن يحكموها واخبرت الدنيا كلها بأنّ فيها هدى ونور وما ذلك إلا لبيان الأسس المشتركة التي لولا التدين المنقوص ولولا الإنحراف بفقه التدين لكانت البشرية اليوم أمة واحدة داخلة في السلم كافة.
وأما احترام بيوت العبادة والمحافظة عليها وصيانتها مهما كانت فكما كان القرآن مصدقًا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنًا عليه وكما كان رسول الله حاملًا لرسالة النبيين كافة محافظًا عليها كانت أمته وملة إبراهيم مسئولة عن حماية دور العبادة والمحافظة عليها وعدم السماح بأي عدوان عليها وتسويتها بالمساجد من حيث المحافظة عليها فقال جل شانه : ﴿ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ﴾ (الحج:39)، ﴿الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ (الحج:40)،
إذن أصبح من أهداف الجهاد الذي أذن الله به بعد فترة طويلة بعد أن كان الأمر قائمًا على قوله تعالى: ﴿… كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ…﴾ (النساء:77) حماية حرية التدين وسائر دور العبادة وهذه التسوية بين المساجد وصوامع الرهبان وأديرتهم وبين البيع والكنائس وغيرها تشير بوضوح إلى مسئولية المسلم عن حماية وتعظيم سائر أنواع أماكن العبادة دون تمييز فكما يحمي المسلم المسجد الذي يؤدي فيه صلاته ويرفع شأنه ويدافع عنه عليه أن يفعل مثل ذلك لحماية دور عبادة الآخرين وصيانتها وتمكين أهلها من العبادة فيها سواء وافقوا المسلمين أم خالفوهم ولذلك جاء الكتاب الكريم يؤكد هذه المسئولية ويأمر المسلمين بالنهوض بها وحماية أهلها والدفاع عن حقهم في حرية العبادة وحرية التدين وعدم السماح بالمساس بها أو إنتهاك حرمتها فذلك فرض على كل مسلم ومسلمة ومؤمن ومؤمنة فالمؤمنون أولى الناس بالقيام بهذه المهام وأكثرهم مسئولية أمام الله عنها فحرية التدين أيًا كانت واجب إيماني لا يسع المؤمن المسلم التفريط فيه أو إهماله بأي حال من الأحوال .
والظواهر السلبية التي نشاهدها في بعض البلدان من الإعتداء على المساجد والكنائس وأماكن العبادة لسائر الأديان الأخرى هي ظواهر تدل على عدم التدين فلو كان هؤلاء الذين يحرقون الكنائس متدينين لنهاهم دينهم عن النيل من معابد الأخرين ولحملهم تدينهم على صيانتها وحمايتها والدفاع عنها والمحافظة عليها فالإسلام دين المؤمنين كافة الذين يؤمنون بقوله جل شأنه: ﴿…فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ…﴾(الكهف:29)، فحرية التدين من الدين وحرية العبادة من العبادة فلا يحق لمؤمن ولا مؤمنة أن يؤيد الذين يقومون بهذه الظواهر السلبية التي يعتبرها الإسلام جرائم يعاقب أصحابها ويجعلهم موضع المسائلة في الدنيا والأخرة عنها: ﴿ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَآئِفِينَ لهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾(البقرة:114).
في الخطبة الثانية:
التأكيد على ضرورة إشاعة الوعي بين المؤمنين بقاعدة حرية التدين والعبادة وضرورة تضامن سائر المؤمنين والمتدينين معًا للدفاع عن هذه الحريات وحمايتها وحماية دور العبادة للجميع
ثم الدعاء بما ييسره الله من أدعية قرآنية تحض على وحدة الأمة وتؤكد هذه المعاني في ضمائر أبنائها سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.