أ. د. طه جابر العلواني
غرقت العراق بدماء أبنائها منذ بروز الفتنة الطائفيَّة فيها، وانتشار القتل على الهُويَّة، والاسم، والانتماء إلى كل مدينة، أو قرية، أو محلة، وانتشار حمامات الدم التي سبح بها القطر بكل ذرة من تراب أراضيه منذ عقود عديدة؛ بعضه قبل الاحتلال، وكان ممهدًا للاحتلال، وبعضها شكَّل ثمرة، ونتيجة لذلك الاحتلال.
لقد بدأ الناس يفكِّرون بأيَّة وسيلة لإيقاف حمامات الدم، وانتهاك الأعراض، وتهديد الحرمات، وهدم المساجد، ودور العبادة، والحسينيَّات دون تفريق على رؤوس القائمين، والساجدين فيها. والناس يطرحون فكرة بعد أخرى، يشاركهم فيها أحيانًا بعض الذين احتلوا العراق، ويذرون العراقيِّين وحدهم غارقين في تخيُّلاتهم، وتخرصاتهم؛ بحثًا عن إيجاد مخرج «ولات حين مناص». ومن آخر الأفكار التي طرحها هواة العمل السياسيّ في ظل طائفيَّة سياسيَّة هزيلة، ومذهبيَّة، وقبليَّة تبحث عن دور، وعقول فارغة إلا من حب التسلط، واقتناص الألقاب ولو في غير موضعها لتكون:
ألقاب مملكة في غير موضعها *** كالهر يحكي انتفاخًا صولة الأسد.
لقد تمخضت أفكارهم إلى تقسيم العراق إلى أقاليم، واقتسام تلك الأشلاء الممزقة بين السياسيّين الجدد، وهواة العمل السياسيّ من حزبيين، وطائفيِّين، ومستغلِّين ومتاجرين بكل شيء بما في ذلك الدين. لقد نادى هؤلاء بتمزيق العراق إلى أقاليم ظنًا منهم أنَّ ذلك سوف يوقف حمامات الدم، وهم بذلك واهمون، فحمامات الدم هذه لا يوقفها تعزيز الطائفيَّة بالإقليميَّة، ولا تعزيز الإقليميَّة بالطائفيَّة؛ بل توقفها الرؤى المشتركة، والتصورات المتناغمة، والألفة والمحبة، والألفة لا يوجدها إلا مقلب القلوب (جلَّ شأنه) فهو الَّذِي ألف بين قلوب المؤمنين وخاطب النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) ﴿لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ (الأنفال:63)؛ فالتأليف بين القلوب شأن إلهيّ، ونفحات ربانيَّة يمن الله تعالى بها على قلوب ملأها الإيمان، وهيمنت عليها التقوى، قلوب مخبتة تقيَّة نقيَّة، تحب لله، وتبغض لله، وتحب الله، ورسوله، ورسالته أكثر مما تحب أنفسها، وذواتها، فإذا علم الله تعالى منها ذلك، ورأى منها الإخلاص فيه؛ مَنَّ عليها بالتأليف بين القلوب، ونقلها من حالة العداء إلى حالة التأليف ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ (آل عمران:103).
و«التأليف» بين القلوب غير «التوحيد» بينها؛ فالتوحيد بين القلوب يقتضي إذابة سائر الفوارق، وجعل الناس كأنَّهم نسخ يشبه بعضهم بعضًا، لا يمتاز أي منهم بأيَّة خاصيَّة على الآخرين. أمَّا «التأليف» فإنَّ من شأنه أن يحفظ خصائص الآخرين الذين ألَّف بين قلوبهم، ويبقى عليها؛ لكنه يزيل عنها مَا قد يعلق بها من سلبيَّات؛ لتكون في خدمة الاجتماع، والإئتلاف، وتبتعد بالناس عن وسائل التنافر، والبغضاء، والعداء.
والعراقيُّون اليوم أحوج مَا يكونون إلى الارتباط بالله (جل شأنه) والتضرع الدائم إليه أن يؤلف بين قلوبهم، وأن يزيل عوامل البغضاء، والتنافر، والتنافس، والغيرة، والحسد من تلك القلوب؛ لتجتمع من جديد لأنَّه إذا اختارت الإقليميَّة مع ذلك التداخل القبائليّ، والطائفيّ، والعرقيّ فمن الصعب جدا أن تستقر تلك الأقاليم طويلًا في إطار مَا يعرف بحكم ذاتيّ لكل إقليم؛ لأنَّه لا تلبث بعد قليل أن تتحرك العوامل السلبيَّة، ودوافع الأثرة في نفوس، وقلوب أبناء الإقليم الواحد؛ ليتصارعوا هذه المرة على الإقليم ذاته، وفي داخل أطره. ومن المعروف أنَّ الأقاليم، والفيدراليَّة، واللامركزيَّة؛ كل منها يحتاج لثقافة خاصَّة، وتدريب طويل؛ كي يتدرب الناس على الإيمان بتلك الوحدات المصغرة، وتدعيم كياناتها، ووجودها، واعتبارها البديل عن الوحدات الكبرى التي ظل الناس ينتمون إليها عقودًا طويلة،
ويمنحونها الحب، والولاء، وينادون بها أوطانًا لهم، ويضفون عليها من المواصفات مَا يجعلهم قادرين على التعلق بها، والاعتزاز بها كلها، واحترام كيانها، والدفاع عنه.
إنَّه بعد اتفاقيَّة «سايكس بيكو» وخروج الأقطار العربيَّة من عباءة الدولة العثمانيَّة، وانصرافها إلى الإقليميَّات مَا من دولة من تلك الدول إلا عانت من المشاكل الحدوديَّة مَا يعرفه التاريخ المعاصر؛ فالعراق نفسه منذ قيام العهد الملكيّ فيه ظلَّ يناضل لمدة خمس سنوات حتى استعاد بمساعدة بريطانيا ولاية الموصل، وأقام الشيخ (محمود الحفيد) مملكته في السليمانيَّة عام 1925. ولم يستطع الحكم العراقيّ إنهاء هذه المملكة إلا بمساعدة بريطانيا، واستخدامها سائر الأسلحة المتطورة لديها آنذاك؛ للقضاء على مملكة الشيخ محمود في السليمانيَّة. وبقيت إيران تتطلع إلى امتيازات خاصَّة تمكنها من الزيارات الحرة للمراقد، والعتبات، والدفن في مقيرة النجف وما إلى ذلك.
ولم تحل مشكلة شط العرب إلا بتوقيع اتفاق الجزائر عام 1975. ولم تحل مشاكل الحدود، ولم تلبث أن تفجرت من جديد، وأن تقوم تلك الحرب التعيسة بين الجارتين العراق، وإيران؛ والتي كلفت البلدين أكثر مَا كلفت أوروبا الحرب العالميَّة بكثير إذا مَا لوحظت النسب. ولا تزال المشاكل عالقة بين العراق، وجيرانها حول كثير من القضايا الحدوديَّة. واحتلال صدام، وجيوشه للكويت؛ إنَّما كان انطلاقًا من تلك المشاكل الحدوديَّة المائيَّة، والترابيَّة بين العراق، والكويت، وما تزال مشاكل الحدود مع تركيا تشكل تهديدًا يعاني منه إقليم كوردستان، وسوف يظل يعاني من ذلك فترات طويلة. وبالتالي فإنَّ المناداة بالأقاليم قد يؤدِّي إلى تجميد عمليَّات حمامات الدم في العراق، لكنَّه لن يؤدِّي إلى إيقافه بالكليَّة، ولا بإنهائها.
إنَّ المراجع الدينيَّة، والعلماء، وقادة الرأي، والمتعلمين يتحملون مسئوليَّة كبرى في معالجة هذه الأوضاع، ويؤسفنا أنَّ هذه المراجع، والحوزات، والعلماء قد أصبحوا بشكل، أو بآخر جزءًا من عوامل تأجيج الصراع الطائفيّ، لا من عوامل التقليل منه، أو خفضه، ولا أحد منهم سوف يفلت من حساب إلهيّ عسير على كل قطرة دم تراق في هذه البلد المنكوب.
وقد كنَّا نحذِّر البلدان المجاورة من أنَّ نيران الفتنة في العراق قد تمتد إليهم إن لم يتركوها، ويتخلوا عن إنما منابعها. ويحاصروها في مهدها العراق، ولم نجد لنداءاتنا من يستمع إليها. لقد كان السيد (محمد حسين فضل الله) آخر علماء الشيعة الذين تجاوبوا مع نداءآتنا، ورحَّبوا بها، ورحَّبوا بتشكيل لجان بقيادة المراجع، والعلماء تكون بمثابة دائرة إطفاء لحرائق الطائفيَّة، والفتن؛ فكلما برزت ظواهر خيف منها أن تؤدي إلى فتنة سارعت تلك اللجان العلميَّة، والعشائريَّة، والسياسيَّة إلى تلك البؤر المهددة بالانفجار، وعملت على إطفاء نيران الفتنة فيها بعد معرفة الأسباب، والحيلولة دون جعلها أدوات، ووسائل تصادم، ونحن مَا نزال ننتظر من أهل العلم، والدين، والمتعلمين، والمثقفين، وقادة الرأي، وصناع الرأي العام أن يتجاوبوا معنا، ويستجيبوا لنداءآتنا لعلّ الله ينظر بعين الرحمة إلى شعوبنا المنكوبة هذه التي بدأت فتن الطائفيَّة، والعنصريَّة تلتهمها قطرًا بعد آخر. فبدأت بالعراق، وثنَّت بسوريا، ونخشى أن تثلث في لبنان، والخليج والبقيَّة تأتي. فهل من مستجيب، اللهم قد بلغت اللهم فاشهد.