Menu
منهجية التعامل مع التراث الإسلامي - مراجعة لكتاب من أدب الاختلاف إلى نبذ الاختلاف - أُمْنِيّة أهلِ السجود([1]) - The future of Islam in America and west - جانب من جلسات فريق باحثي الأزهر للعمل على وضع منهجية مراجعة التراث - حوار حول الربيع العربي - الإسلام والمسلمون من وجهة نظر غربية - برنامج اخترنا لمكتبتك - معالم في المنهج القرآني - ومضات فكرية

قاتل الله دعاة العاميَّة

أ.د/ طه جابر العلواني

نحن نعلم أنَّ شياطين الجن والاحتلال والاستحمار التي جرت لبلادنا وشعوبنا خلال القرنين الماضيين قد أدخلت إلينا بدعًا كثيرة، وشرورًا وفيرة، ومنافع للناس، والإثم كان أكثر من النفع، ومن أبرز ما نفخت فيه أبواق المستحمرين والمستكبرين الذين يسمون بالمستعمرين تهميش الفصحى، وإعلاء شأن العاميَّة، وإبراز ثقل الفصحى، وتحميلها مسئوليَّة التخلُّف الفكري والثقافي والحضاري.

 وجيلي يتذكر جيدًا قضايا السخرية والاستهزاء التي لم تكن مسرحية أو فلم يخلو منها، ممَّا صدر في العالم العربي خلال القرنين الماضيين، واشتهر عبد المنعم إبراهيم الممثل المصري المعروف بتمثيل دور أزهري يسخر الآخرون به لحديثه بالفصحى، وأصاب الأزهر والأزهرييّن والمعنييّن بلغة القرآن والخادمين له عنت شديد من تلك الحملات الضالة الظالمة.

 وتأسَّست مدارس للترويج للعاميَّة، واعتبارها الأسهل والأرق، وتولى كبر تلك المدارس في لبنان من أطلق عليه البعض الفيلسوف (سعيد عقل)، وأمَّا في مصر فقد تعدد المتفلسفون الداعون إلى العاميَّة، والهدف كله يكاد ينحصر في إيجاد قطيعة معرفيَّة بين الأمَّة وتراثها، والأمَّة وكتاب ربها؛ لأنَّه إذا سادت العاميَّة واختفت الفصحى سوف توجد أجيال لا تستطيع القراءة في التراث إلا على طريقة: (إذا خاء بصر اللالا والقبچ) بدلًا من ﴿إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (النصر:1) ثم يسأل بعد ذلك إذا ما كان صحيحًا (ورأيت الناس يا ألفاس).

        ولقد وجدنا العجب العجاب حين تجرأ البعض على ممارسة الكتابة بالعاميَّة، العاجزة عن حمل الأفكار الكبيرة، أو تطوير العقول، أو إثارة كوامن القدرة في النفوس، أو استخراج ملكات الإبداع فيها، فذلك كله يمكن أن يختفي إذا سادت اللهجات العاميَّة. فأنت إذا استعملت اللهجة العراقيَّة خاصَّة الجنوبيَّة في شمال العراق لن يستطيع كرديٌّ ولا تركمانيٌّ أن يفهم عليك، أمَّا إذا استعملت الفصحى فما من أحد يجهل ما تقول؛ لأنَّ لغة القرآن ولسانه قد هيأ الناس لذلك، أمَّا العاميَّة فلا يتهيأ لها أحد إلا الناطقون بها، وإذا جاء المغربي أو الجزائري إلى المشرق العربي ولم يتكلم إلا بالعاميَّة المغربيَّة أو الجزائريَّة فلن يستطيع أن يتفاهم مع إخوانه العرب إلا بمترجم.

        لا أريد أن أحيي المعركة بين الفصحى والعاميَّة، فهي حيَّة جذعة ما تزال قائمة، لكن ما حملني على ذلك أنَّني أمليت على مساعدتي المصريَّة مقالات بالفصحى؛ فكانت تكتب الأحرف لا كما تسمعها، بل كما تفكر فيها باللهجة العاميَّة، فأقول لها: الحذر؛ فتكتبها الحزر، وأقول لها: النبز؛ تكتبها النبذ، وأقول لها: الحارس؛ فتكتبه الحارث. أحيانا أجد وقتًا للتصحيح فأصحح لها ذلك، وأحيانًا لا أجد؛ فتذهب كما هي بلهجتها اللطيفة، يفهم من يفهم، وينغلق المعنى على من ينغلق عليه.

فشعرت بخطورة هذه اللهجات العاميَّة على التفاهم بين العرب، وأضرارها الوخيمة جدًا، فهي تؤدي إلى القطيعة المعرفيَّة كما ذكرنا، وإلى شعور شعوبنا بالانفصال عن بعضها، وبالتالي استدامة حالة التمزُّق والفرقة والفواصل. وقد يكون المصريُّون محظوظين أنَّ لهجتهم معروفة في مختلف البلدان؛ بتأثير الأفلام والمسلسلات المصريَّة التي تشاهد في العالم العربي كله، فتجعل الناس يفهمونها ولكن لا يتمتع العرب جميعًا بتلك القدرة ولا بذلك العدد الكافي من الفنانين الذين يصنعون الأفلام والمسلسلات لتنتشر بلهجتهم العاميَّة في العالم العربي كله.

وها هي غضبت لنفسها وأصرت على أن لا أملي أكثر مما أمليت وأتوقف نزولًا عند رغبتها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *