Menu
منهجية التعامل مع التراث الإسلامي - مراجعة لكتاب من أدب الاختلاف إلى نبذ الاختلاف - أُمْنِيّة أهلِ السجود([1]) - The future of Islam in America and west - جانب من جلسات فريق باحثي الأزهر للعمل على وضع منهجية مراجعة التراث - حوار حول الربيع العربي - الإسلام والمسلمون من وجهة نظر غربية - برنامج اخترنا لمكتبتك - معالم في المنهج القرآني - ومضات فكرية

نعمة التخلف

أ./ طه جابر العلواني.

        قد يستغرب البعض هذا العنوان المستفز، الذي اخترناه لأنَّنا نؤمن به بالفعل، والله (تبارك وتعالى) أعلم إذ جعل الحضارة تقوم في غير بلدان المسلمين، وعلى أيدي سواهم، وجعلهم في حالة من التخلُّف تستمطر دموع أعدائهم عليهم أحيانًا؛ ذلك لأنَّ تخلفهم الذي جعلهم يعيشون على هامش الحضارة، ولا يكون لهم فيها إلا إسهام الأجداد، واستهلاك الأحفاد لمقتنيات الحضارة استهلاكًا سفيهًا شرهًا، لا حكمة فيه، ولا اقتصاد، دليل على أنَّ التخلف خير لهم لو كانوا يعلمون.

    فاليوم عرفت حكمة الله (عزَّ وجلَّ) في أنَّنا حرمنا من المخترعات، فنحن لم نخترع هذه الأسلحة، لا أسلحة الدمار الشامل، ولا أسلحة الدفاع عن النفس، ولا سواها، بل إنَّنا نبتاعها ثم إذا صارت في أيدينا أسأنا استعمالها. فلولا هذه الأسلحة الفتاكة لما قتل في العراق كل أولئك الذين امتلأت بهم المقابر الجماعيَّة، ولما قتل في الحرب بين صدام، وحزبه، وجنده، وبين إيران كل تلك الملايين من القتلى، والمصابين، ودمرت كل تلك الأموال، والأراضي. ولولا الأسلحة الفتاكة التي اخترعها الغربيون لما قتل الآلاف من أبناء سوريا عبر السنوات الثلاث، فالقتلى تجاوزت أعدادهم سائر الحروب التي خاضتها سوريا في معارك التحرر من فرنسا، أو في حربها ضد إسرائيل. وأمَّا المصابون والمشردون فقد بلغوا الملايين عددًا.

ولولا تلك الأسلحة الفتَّاكة التي اخترعها الغربيون لما قتل في العراق من السنة، والشيعة، ومن الأبرياء، وغيرهم مئآت الآلاف، ولعل أعدادهم عبر السنين الماضية تجاوزت أعداد العراقيين الذين قتلوا في ثورة العشرين لتحرير العراق من الاحتلال البريطاني. والذين قتلوا في حرب بريطانيا على العراق عام (1941) من القرن الماضي، وفي سائر الانتفاضات، وحرب فلسطين، وما إلى ذلك. كل ذلك بفعل شعارات طائفيَّة، وكبت طائفي، مزق الشعب، والبلدان، وعاد بأشد الأضرار فتكًا على الأمَّة كلها. ولولا هذه الأسلحة الفتَّاكة، والمفخخات لربما كان قتلى الفتن الطائفيَّة، والصراعات الداخلية لا يزيد على عشرات، ألم أقل لكم إنَّ التخلف نعمة؟!

        تُرى لو أنَّ المسلمين تمكنوا من اختراع أسلحة الدمار الشامل من القنابل الذرية، والنبالم، وسائر الأسلحة المحرمة دوليًا، والأسلحة الكيماوية؛ ماذا كانوا يصنعون؟ إذن: لأبادوا أنفسهم، وأضروا بالعالم كله. ولكن الحمد لله الذي حال بينهم، وبين هذه القدرة؛ فالسلاح الكيماوي حين امتلكه صدام في العراق، ألقاه على‹‹حلبچه›› لإبادة الأكراد. ولولا امتلاك بشار الأسد للأسلحة الكيماوية؛ لما ضرب بها أبناء الغوطة في الشام. ولا شك عندي أنَّ هذه الأسلحة الفتاكة لو امتلكها الشيعة؛ لأبادوا السنة، ومات الشيعة بالتلوث الذي تحدثه ولو بعد حين، وكذلك لو طالتها أيدي السنَّة، ولكن الله حكيم خبير. ولو أنَّ الحضارة انبثقت في هذه الأمَّة، وهي في حالتها هذه من التدهور؛ لربما انتهى البترول بعد سنوات من اكتشافه، إذ إنَّ التبديد، والتبذير، والفساد كفيل بإنهاء، وتدمير أيَّة ثروة، وبأسرع وقت ممكن.

اخترعت الثلاجات لتؤدي جملة كبيرة من الوظائف الحضاريَّة، ويستفاد بها في المصانع والمزارع وتطوير الصناعات، أمَّا عندنا فقد تحولت الثلاجات الكبرى إلى صناديق لحفظ القتلى والشهداء، إذا لم تضق ذرعًا بكثرتهم فيلقون في الأخاديد التي تطلق عليها المقابر الجماعيَّة قبل أن يدخلوا الثلاجات المتخمة، التي لا يوجد فيها مكان شاغر في بلداننا، خلافًا لسائر بلدان الناس.

        وانظروا إلى هذه الفضائيَّات التي اخترعها غيرنا، وأخذنا نحن بإقامتها بتلك الأساليب المتخلفة؛ ففضائيَّة تخصص لإذكاء الروح الطائفيَّة يتحدث فيها أشد أهل السنَّة طائفيَّة، وتعصبًا. وفضائيَّات شيعيَّة تشيع الكراهية، والبغضاء في كل لحظة من ليل، أو نهار، وأخرى تنشر الخرافة، ورابعة تنشر الجهل، وخامسة تفسد الأذواق، وتدمر الأخلاق، وسادسة تلطم الخدود وتشق الجيوب، وعاشرة.. إلخ.

        فهل كانت المعادن التي استخرجت من أرض العرب نعمة عليهم، أم نقمة؟ لقد كانت نقمة في حاصلها، وغالبها، وكان يمكن أن تكون نعمة تستحيي بها الأمَّة، ويعاد بناؤها، وجمع كلمتها، وتعلية إنسانيَّتها، وترقية إنسانها، وإزالة جهلها، والقضاء على أمراضها، واستئناف شهودها الحضاري، لكن الله (جلَّ شأنه) أعلم بنا، وبكم. لقد كانت الثقافة الطائفيَّة تُعلَّم سابقًا في مجالس بسيطة في حوزات، أو مساجد يُستمع فيها للخطاب الطائفي المدمر آحاد، أو عشرات وقد تصل في بعض المناسبات إلى المئآت؛ أمَّا مع الفضائيَّات المخترعة اليوم فقد صار هذا الخطاب الكريه؛ خطاب الكراهية، والتعصب، والطائفيَّة يصل إلى الملايين؛ فيدمر الروابط، ويحطم ما بناه الإسلام من روح التكافل، والتراحم بين المسلمين. هذا الخطاب الكريه القذر النتن وجد اليوم هذه الأبواق الواسعة المخترَعة ما جعله يتجاوز السدود، والقيود، والحدود.

   فكم من عقل متحجر لو تُرك وحده لربما انحصر دوره في تخريب عقول أعداد محدودة من الذين يستمعون إليه في زاوية من زوايا الارض، ولكن مع هذه الفضائيَّات؛ صار الخطاب يعبر القارات، فهناك فضائيَّات طائفيَّة تبث من الولايات المتحدة الأمريكيَّة في المنطقة العربيَّة المبتلاة برجسها، ونجد فضائيَّات تبث من المملكة المتحدة، وجنوب شرق آسيا، وغيرها. ومعظم تلك الفضائيَّات يقوم عليها أُناس من ذوي العاهات والجراحات والعقد النفسيَّة، مهمتهم التي حملوها على عاتقهم هي التخريب، والتدمير، وتفكيك الروابط، وتشويه الإسلام، وحجب العالم عن اكتشافه، ومعرفة محاسنه، فضلًا عن الإقبال عليه. فمن يستطيع أن يلتفت إلى الإسلام، ويعتبره منهج خلاص، وهو يرى تلك المذابح بين السنَّة، والشيعة، وخطاب الكراهية، والتعصب المقيت؟ إنَّه لا أحد يدرك محاسن الإسلام، وحملة هذا الخطاب يصدون الناس عن سبيل الله بما يثيرون من قضايا أكل الزمن عليها وشرب، وهم سيحملون يوم القيامة أوزارهم، وأوزارًا مع أوزارهم، إنَّهم يتجاوزون بذلك حكمة ما جاء به القرآن الكريم وذلك في قوله تعالى ﴿تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ ﴿البقرة:134﴾ ونحوه.

كنا نتمنى لو أنَّ ‹‹هولاكو››، وجنده حين دخلوا بغداد، وأقاموا فيها مآذن من جماجم المسلمين، وألقوا بكتبها في نهر دجلة حتى قال الشاعر:

وما زالت القتلى تمج دماءَها *** بدجلة حتى ماء دجلة أشكل.

كنا نتمنى لو أنَّ هولاكو ألقى في نهر دجلة كتب سائر الطوائف الإسلامية المتطرفة، والمتعصبة التي تتعبد إلى الله بالكراهية، والتعصب، ونشر البغضاء، إذن: لقدم للإسلام خدمة تفوق بكثير خدمة دخوله الإسلام هو وجنده بعد سنوات. “وما كل ما يتمنى المرء يدركه”.

هنا تحضرني قصة من القصص الإسرائيليَّة وهي: أنَّ أحد الإسرائيلين كان مسرفًا على نفسه جدًا، لم يترك خطيئة أو إثمًا استطاع أن يرتكبه إلا فعله، وأوحى الله إلى نبي زمانه أن يذهب إليه ويبشره بالجنَّة، فقال النبي: يا رب هذا رجل معروف في البلد كله بفسقه وفجوره وخروجه عن الطاعة إلى المعصية في كل شيء، مما يجعلني أتهيَّب مجرد الوقوف معه أو الذهاب إلى داره، ولكن ما دمت قد أمرت فلا يسعني إلا التنفيذ، وذهب ذلك النبي كما تزعم القصة إلى الرجل فرحب الرجل وهو شديد الخجل به، وقال له: أنا أقل من أن تحضر إليَّ، قال: حضرت إليك بأمر ربي؛ لأبشرك بالجنَّة، فربك قد غفر لك ورضي عنك، وأمرني أن أنقل لك البشرى، فشكر الرجل النبي، وحمد الله، وعاهد النبي على أن لا يعود للمعصية ثانية، فقال النبي للرجل: الآن وقد بشرتك، هل لي أن أسألك عن أي فعل أو قول فعلته أو قلته جعل الله يرضى عنك؟ قال: والله لا أذكر لنفسي أيَّة حسنة إلا واحدة، قال النبي: وما هي؟ قال: لا أذكر أنَّني اعترضت على ما يقدره الله للناس ويحدث لهم أبدًا، فإذا رأيت أعمى لا أقول: يا رب لم أخذت بصره، وكذلك إذا رأيت مقعدًا أو مريضًا فلا أذكر أنَّني اعترضت على شيء مما يدخل في أقدار الله (جل شأنه)، ويبدو أنَّ هذه الحسنة هي الوحيدة لي، فكما أنَّي لم أعترض عليه لم يعترض على ما أفعل. أو أنَّه غفر لي بذلك السبب.

لا تنسو أنِّي قلت: إنَّ القصة إسرائيليَّة، مما يردده القصاصون والوضَّاعون، والحشوية، أرجو أن لا أكون قد قلدت هذا الرجل في حمدي وشكري لله على تخلُّف أهلي وعشيرتي وأمتي.

ومع ذلك فلسنا يائسين، ونتمنى على الله (عزَّ وجلَّ) أن يتدخل بلطفه لإنقاذ بقايا هذه الأمَّة ويصلح شأنها ويحميها من جهل أبنائها، وعجز علمائها، وتآمر الأخباث عليها، ويحميها من رموز الطائفيَّة، والتعصب، وثقافة البغضاء والإرجاف والتفرقة، ويردها ردًا جميلًا إلى كتابه، وهدي نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم)، إنَّه سميع مجيب.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *