Menu
منهجية التعامل مع التراث الإسلامي - مراجعة لكتاب من أدب الاختلاف إلى نبذ الاختلاف - أُمْنِيّة أهلِ السجود([1]) - The future of Islam in America and west - جانب من جلسات فريق باحثي الأزهر للعمل على وضع منهجية مراجعة التراث - حوار حول الربيع العربي - الإسلام والمسلمون من وجهة نظر غربية - برنامج اخترنا لمكتبتك - معالم في المنهج القرآني - ومضات فكرية

الصديق الذي فقدت

أ.د/ طه جابر العلواني.

الصداقة أمر في غاية الأهمية، لا يستغني عنها إنسان خلقه الله مدنيًّا بطبعه، يألف ويؤلف، والصديق أو الخل الوفي يُعد من أندر الموجودات في سائر الأزمان، والشعراء والأدباء ملؤوا الدنيا شعرًا ونثرًا بالتفجُّع والحنين إلى العثور على صديق أو خل وفي، وقد منَّ الله (جل شأنه) علي بكسب أصدقاء لا يزيدون على أصابع اليدين، فجعت بكثير منهم، وبأحبهم إليَّ في مراحل عديدة من حياتي، ومنهم من ينتظر، وما بدلت في صداقتهم وحبهم وما بدلوا تبديلًا، ذكرهم يخفف عن النفس آلامها، وينعش آمالها، ويزيل أحزانها، ويقضي على آلامها وأتراحها، وغياب أي منهم فجيعة لا تساويها فجيعة ولا تقاربها. وقديمًا قيل:

إن عشت تفجع بالأحبة كلهم             وذهاب نفسك لا أبا لك أفجع

فجعت أمس بخبر وفاة واحد من هؤلاء، ومن أعزهم وأقربهم إلى القلب والنفس، وهو يونس الحاج يحيى أغا، من أغوات باب البيض في الموصل، عرفت يونس أول ما عرفته عام 1960م، في موقف الشعبة الخاصَّة في شرطة السراي في بغداد، فقد جيئ بي معتقلًا لتسفيري إلى سجن نقرة السلمان، وأدخلت غرفة صغيرة لا تجاوز مترين في مترين، فيها ثلاثة أسِرَّة ضيقة من أسِرَّة الشرطة، كأنَّها أدخل بعضها في بعض؛ لتتسع الغرفة أو الزنزانة لها، أعدَّت لاستراحة ضباط الشرطة المناوبين، كاستراحة مؤقتة يقضي فيها من يدركه التعب منهم ساعة أو ساعتين للاستراحة، إذا جلست على السرير نزل بك إلى الأرض، وإن قمت عنه فجأة ضرب مؤخرتك وظهرك بأسلاكه الحديديَّة.

 وحين أُدخلت إلى هذا المحبس وجدت أخي الحاج يونس هناك، فقد جاؤوا به معتقلًا من الموصل، ووضع في ذلك الموقع إكرامًا له؛ لأنَّه وجيه من وجهاء الموصل، وشخصيَّة لها وزنها في الموصل المدينة، وفي الريف المجاور لها، ولأغوات باب البيض مكانتهم المرموقة في ذلك البلد، وبين شيوخ عشائر ربيعة وشمر وطي والجبور ومن إليهم، قام الرجل إليَّ ورحب بي، وشعرت فورًا كأنَّني أعرف الرجل من زمن بعيد.

 جلست بانتظار إنهاء إجراءآت التسفير في ذلك الصيف القائض إلى نقرة السلمان، فإذا بيونس أغا بعد أن رحب بي، وقدم لي شيئًا مما لديه من سجائر وحلوى وما إليها؛ ظل ذاهبًا آيبًا بين غرفة مأمور المركز وضابط الشرطة والغرفة التي نحن فيها، أخذ مني بعض المعلومات الشخصيَّة ثم عاد مبتسمًا ليقول: لن تسافر إلى نقرة السلمان، وستبقى معي هنا، وأنَّه قد اتفق مع المسئولين في الشعبة الخاصَّة، وفي قيادة شرطة السراي، أن يكتبوا للحاكم العسكري العام بأنَّني مصاب بأمراض تقتضي وجودي قريبًا من مستشفى فيه العديد من التخصصات في كل الأعضاء الهامَّة في الجسم، وأنَّ سفري إلى نقرة السلمان قد يؤدي إلى وفاتي، ولا أحد يستطيع تحمل هذه المسئوليَّة، ويفضل أن أبقى في بغداد في أي سجن من سجونها، أو الموصل أو البصرة، لتلقي العلاج عند الحاجة.

وأخبرني الحاج يونس أنَّ إرسال هذا الخطاب يفرض أن أبقى حيث أنا لمدة لا تقل عن أسبوعين إلى ثلاثة، ريثما نتمكن من التوسط لدى الحاكم العسكري لتغيير أمره بحبسي في بغداد بدلًا من نقرة السلمان، وكان للحاج يونس ما أراد، وبقينا معًا ليلًا ونهارًا نقرأ القرآن، ونذكر الله، ونستقبل ضيوفنا. وكان الأغوات إضافة إلى أصدقائي وأهلي يأتوننا بما نحتاج إليه وبما لا نحتاج، فكان أبو يحيى ــ وتلك كنيته ــ يوزِّع معظم ما يصلنا من الموصل أو بغداد على المحيطين بنا من الشرطة والحراس، الذين كانوا يتفانون في خدمتنا وينفذون أوامر أبي يحيى أكثر مما ينفذون أوامر قادتهم والمسئولين عنهم. بقينا على تلك الحال ما يقرب من ستة أشهر، كان الرجل حكيمًا صبورًا، تعلمت منه كثيرًا من مكارم الأخلاق بشكل عملي، أعجب كل منَّا بالآخر، وتوثقت رابطتنا، واستمرت أخوَّتنا، كان الرجل قد فقد الكثير من أمواله وزروعه وممتلكاته نتيجة حبسه.

 وذات يوم حاول إيقاظي لصلاة الصبح لنصلي جماعة كما اعتدنا، وكنت كما يقال: “في عز النوم”، وظل هو يهمس حولي الصلاة خير من النوم الصلاة خير من النوم، فقلت له مغضبًا ودون وعي: هذا بالنسبة لك، ونمت، ولما استيقظت وجدت سحابة رقيقة من غضب لطيف على وجهه وهو يردد، بالنسبة لك بالنسبة لك، وماذا بالنسبة لك يا شيخ، فعلمت أنَّ شيئًا حدث وأنا نائم، فسألته وأخبرني بالقصة وبدأنا نضحك، وفي تلك الأثناء زارنا الحبيب الصديق الشهيد العميد/ محمد فرج الجاسم، فاشتكاني يونس إليه، وذكر له القصة، فضحك أبو عمر ــ وتلك كنية محمد فرج يرحمه الله ــ فقال له: ما قاله أخوك طه أقل بكثير مما قلته لمن حاول إيقاظي مرة، وكنت كذلك معتقلًا، فقد قال لي زميلي الذي يصلي معي: أبو عمر أبو عمر قم للصلاة فالشمس ستطلع، فرددت عليه بحدة لن تطلع حتى أقوم. فضحك الرجل وانصرف عني، ولما قمت وأخبرني الخبر ضحكنا معًا على ما حدث، فردُّ الشيخ عليك أبسط بكثير من ردي على صاحبي.

وذات يوم رأيت يونس أغا وقد اقترب وقد الحصاد يتوجع ويتألم أنَّ موسم الحصاد قد أظل، وإذا لم يكن موجودًا في مزرعته فسيضيع الكثير من المحصول إذ لا أحد غيره يستطيع أن يدبر أمور الحصاد كما ينبغي، ويأتي بمكائن الحصاد والتكديس المطلوبة لتلك الأراضي الساشعة المزروعة بالقمح وغيره من الحبوب، فقلت له: يونس، سأعلمك دعاءً اسمه “دعاء الكرب” أدع الله به، لعله يفرج عنك. وأخبرته بأنَّني لم أجربه، لخشيتي أن لا يستجاب لي ويقع في نفسي ما أكره، وعلَّمته دعاء الكرب الذي ورد عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في حديث ورد في الصحيحين البخاري ومسلم، وقلت له: هذا حديث متفق عليه.

فانتهينا من صلاة العشاء وتناومت، وطلبت إطفاء النور، وإذا بيونس أغا يتوضأ من جديد ويستقبل القبلة ويصلي ما شاء الله له أن يصلي، ثم بدأ يردد دعاء الكرب، حتى أوشك الفجر على الطلوع، وأنا أسمعه، فحبكت النكتة معي، فقلت له: مقالة أبناء الدليم عندنا: “يا يونس قد مزقت مشالح رب العالمين كلها”، فكفى يا أخي لم أستطع النوم من تضرعك. وخجل الرجل لأنَّه كان يظن أنَّ تضرعه ومناجاته بينه وبين ربه فحسب، ولم يكن يتوقع أنَّني كنت أسمعه، وقمنا وصلينا الصبح معًا، وعدنا لننام قليلًا؛ فإذا بمدير الشرطة يأتي إلينا ضاحكًا يقول: يونس أغا جاء أمر بالإفراج عنك، ففرحنا معًا فرحًا شديدًا، واشتدت ثقة الرجل بالدعاء، فقال: ما دمت تعرف هذا السلاح الخطير فلم لم تردد الدعاء الذي علمتنيه، وها قد رأيت بنفسك، لم يمض علينا يوم واحد إلا وفرج الله عني، فقلت له ما في نفسي آنذاك، وبيَّنت له أنَّ إقباله على الله في تلك اللحظة الحرجة وهو مكروب مهموم قد جعل الدعاء يسمع ويستجاب بتلك السرعة، فهنيئًا لك، وقبل أن يُنادى لصلاة الظهر كان الرجل قد استكمل أوراقه فأدركته العبرة وهو يودعني، ويقول: والله لولا الحصاد وضرورة وجودي هناك لطلبت تمديد اعتقالي لأبقى معك، فدعوت له وودعته ولم يمضِ إلا أسبوع واحد ثم جاءني من الموصل زائرًا، وقضى معي ساعات، وظل يفعل ذلك إلى أن أطلق سراحي، وبدأنا نتزاور، أزوره أحيانًا في الموصل ويزورني في بغداد، وقد كان آخر لقاء بيننا في مدينة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حين جاء معتمرًا، وكنت ــ آنذاك ــ في الرياض، فذهبت إليها وقضينا يومًا وبعض يوم معًا ثم عدت إلى الرياض.

وعلى ذكر عبارة متفق عليه، كان له ابن خالته الدكتور/ محمد حامد الطائي أستاذ فاضل معروف، كان يكثر من زيارتنا في السجن، وكنا ندخل أحيانًا في نقاش، فتتفق وجهة نظري ونظر أبي الحارث خلافًا لما يراه يونس، فيتضاحك ويقول: أه، متفق علي، أنا متفق علي، يعني بذلك أنَّنا اتفقنا عليه أو على مخالفته، تغمدك الله يا يونس برحمته، وأسكنك فسيح جناته، وعوضنا بمن تركت، بهذال وبقيَّة أبنائك وأهلك خيرًا، وجمعنا وإياك في مجلس رسول الله (صلى الله  عليه وآله وسلم) في الجنة، مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقًا.

يقول أبو الطيب:

لَوْلا مُفارَقَةُ الأحبابِ ما وَجَدَتْ *** لهَا المَنَايَا إلى أرْوَاحِنَا سُبُلا

تعازيَّ إلى هذال وأهل بيت يونس وأغوات باب البيض، وإلى كل المتحلِّين بالخصال المشابهة لخصال أبي يحيى، إنَّه نعم السلف لنعم الخلف إن شاء الله.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *