أ.د/ طه جابر العلواني
الحمد لله رب العالمين، نستغفره، ونستعينه، ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئآت أعمالنا، من يهدي الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له وليًا مرشدًا، ونصلي ونسلم على سيدنا محمد عبد الله ورسوله، وعلى آله وأصحابه ومن تبعه واهتدى بهديه إلى يوم لقاه.
ثم أمَّا بعد:
موضوع خطبتنا لهذه الجمعة المباركة ــ إن شاء الله ــ موضوع في غاية الخطورة والأهمية، قَلَّ من يلتفت إليه أو يهتم به، ألا وهو: موضوع الأطفال الذين تتضافر ظروف الحياة الصعبة لتلقي بهم في شوارع المدينة، بدلًا من العيش في بيوتها، وبين أهلها، هؤلاء تلقي بهم المدينة الحديثة كلما كبرت واتسعت إلى شوارعها، وتلفظهم كما تلفظ القمامة وتلقي بها إلى خارج الدور والمساكن متقذرة متأففة مستنكفة. وتنسى المدينة وأهلها أنَّ هؤلاء بشر، لا يختلفون عن أي بشر مثلهم، لكن الظروف الصعبة والعوامل الجبريَّة القاهرة تعرضهم لمحن عديدة، وانتهاكات مختلفة، فيلقى بهم وهم في سن الطفولة أو الصبا لا يستطيعون أن يقوموا بشأن أنفسهم ولا يهيئ المجتمع لهم المحاضن الكافية، ولا يأنف المجتمع من تسميتهم بأطفال الشوارع، وما كانوا قبل هيمنة حظوظهم البائسة وآثار الفرص الضائعة لينسبوا إلى الشوارع.
إذ عندما نبحث حال كل منهم أو منهن نجد له أبوين وأسرة وجذورًا ممتدة في المجتمع، ولكن عدم تحمُّل المجتمع لمسئوليَّاته عن أبنائه، وعجز مؤسَّسات المجتمع عن استيعاب أبناء المجتمع، وإيجاد حالة اندماج وتكافل وتعاون فيما بينهم؛ جعلت هؤلاء أطفالًا للشارع على أرضه يعيشون وإليه ينتسبون. يفترشون الأرض ويلتحفون السماء في أيَّة زاوية مهجورة من زوايا المدينة، وقد ترفض المدينة أن تقدم لهم من الطعام إلا ما يختلط بقمامتها، فينسى ذلك الطفل أو الصبي آدميَّته وإنسانيَّته وهو يسابق الكلاب، ويصارع القطط الضالة؛ ليحظى بشيء نسيته المدينة أو استقذرته أو خافت أذاه فألقت به في قمامتها، فيأتي هذا الإنسان مع الكلاب الضالة والقطط السائبة وأيَّة حيوانات أخرى ليسابقها على ذلك الطعام الفاسد والملوث إذا وجد، وشيئًا فشيئًا ينسى أنَّه آدمي، ويلعن آدميَّته، بل لا يرى فرقًا بين أن ينسب إلى أمَّة الكلاب الضالة أو أمَّة القطط السائبة والفئران والجرذان وما إليها، أو ينسب إلى بني آدم الذين أهملوه وتركوه، وشغلوا بكل شيء إلا أن يلتفتوا إليه أو يهتموا به.
يعيش في الولايات المتحدة الأمريكيَّة ما لا يقل عن عشرة ملايين كلب مدلل، ينفق على أقلها شأنًا ومن كلاب الأسر الفقيرة ما لا يقل عن خمسة دولارات في اليوم، أي خمسة وثلاثين جنيهًا أو تزيد في اليوم الواحد، وهناك ما يزيد عن سبعين مليون قطة مدللة نفقات القطة أحيانًا تساوي نفقات الكلب، وأحيانًا تزيد، بحسب ما يضفيه أصحاب البيوت والمساكن على قططهم من حنان وعواطف ولباس زينة، يصل في بعض الأحيان إلى وضع قلادات عنق في عنق بعض القطط، أو ما يشبه ذلك.
وحين ننظر في بلداننا في العالم الإسلامي نجد أنَّ الغالبيَّة العظمى من البشر من الأفراد والأسر لا تحظى بمثل تلك العناية التي بلغت حد إقامة فنادق للكلاب والقطط للإقامة والإيواء عندما يسافر أصحاب الكلب سفرًا لا يسمح لهم باصطحاب كلبهم. في حضارتنا الإسلاميَّة كانت هناك عناية بمثل هذه الأمور، لكن العناية بالإنسان كانت أولويَّة عظمى، فالإنسان بنيان الله، وملعون من هدم بنيانه أو أهمله، والإنسان استخلفه الله في الأرض: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ..﴾ (البقرة:30)، والإنسان ائتمنه الله على الكون وعلى خلقه، هذا الإنسان كرمه الله (جل شأنه)، ورفع شأنه؛ ليتمكن من أداء هذه المهام، فقال (تبارك وتعالى): ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً﴾ (الإسراء:70).
لقد كانت هناك حين أقامت حضارة الإسلام مؤسَّسات للعناية بكل شرائح المجتمع، بمن فيهم اللقطاء أو أبناء الشوارع أوقاف تكفل تأمين مساكن للفقراء والمساكين والأرامل والأيتام، والزكاة قسمت على ثمانية أصناف، من لم يندرج تحت صنف من هذه الأصناف فله في بند “في سبيل الله” نصيب وافر يقيه مذلة السؤال، ويحميه من آفات التشرد، يقول (صلوات الله وسلامه عليه): “أَيُّمَا أَهْلِ عِرْصَةٍ بَاتَ فِيهُمُ امْرُؤٌ جَائِعٌ ، فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُمْ ذِمَّةُ اللَّهِ”، وتعلَّم المسلمون من هدي القرآن وهدي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنَّ أهل كل مدينة أو حي أو ناحية أو قرية مسئولون عن جميع الأحياء التي تعيش على تلك الأرض، مسئولون عن إنسانها أولًا بأن توفر له الحياة الكريمة الإنسانيَّة، وأن يدمج في مجتمعه، ومسئولون عن حيواناتها التي من شأنها أن تكون أليفة وأن تطوف على الإنسان؛ ولذلك قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): “دخلَتِ امرأةٌ النارَ في هِرَّةٍ ربَطَتْها، فلم تَطعَمْها، ولم تَدَعْها تأكلُ من خَشاشِ الأرضِ”، حتى ماتت، لماذا؟ لأنَّ هذه المرأة وهي جزء من المجتمع أهملت وظيفتها الإنسانيَّة، وهي القيام على المجتمع بما يصلحه، ويندرج في ذلك العناية بشجره وبطيره وبالحيوانات الأليفة فيه، فحين أخلَّت بواجب الأمانة والعناية بهذا المخلوق العاجز الذي هو القطة أدخلها الله النار؛ بسبب خيانتها للأمانة الإلهيَّة، وتفريطها بمسئوليَّتها عن هذا الجزء من الأحياء في المجتمع؛ ليعلمنا درسًا ما كان ينبغي أن ينسى.
الله (تبارك وتعالى) قرر لنا قاعدة كليَّة ألا وهي: ﴿وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاء الْأَوْفَى﴾ (النجم:39-41)، و ﴿كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ﴾ (المدثر:38)، قد يكون طفل تولَّد عن علاقة محرمة بين رجل وامرأة، ووجدت المرأة المفرطة الزانية نفسها عاجزة عن مواجهة المجتمع بخطئها وخطأ شريكها؛ فتذهب لتلقي بجنينها إذا لم تستطع الإجهاض في وقت مناسب حتى ولدت تلقيه على باب مسجد أو في مكب قمامة؛ ليلتقطه من يلتقطه أو يضيع، يظل المجتمع والحالة هذه يعتبر المسئول الأول عن ظلمه وربما عن ظلم أبويه الجبانين ينظر إليه نظرة ازدراء واحتقار، وتركز في ثقافتنا احتقار وتحقير من نطلق عليهم ظلمًا وعدوانًا: “أبناء الحرام”، وننبزهم طيلة حياتهم بذلك، فنجعلهم ينسحبون من مخالطة المجتمع وينعزلون عنه، وهم له كارهون، وتبدأ العقد النفسيَّة تفتك فيهم حتى يصبحوا أشد قسوة من الحجارة، مستعدون لأن يبيدوا ذلك المجتمع الذي حقَّرهم وازدراهم وأهملهم.
ولقد أصابت هذه الظاهرة العرب قبل الإسلام، وحينما جاء رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) المبعوث رحمة للعالمين الناس بالهدى ودين الحق؛ اختفت تلك الظاهرة بتعاليمه، وأصبح الناس يحترمون الإنسان لشخصه وبشخصه، دون نظر إلى أبيه أو أمه، ونهى أصلًا عن البحث والحفر في الجذور لهذا القصد ولهذا الغرض، لمعرفة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بأنَّ الزنا كان يمارس عند العرب في جاهليَّتهم بشكل إباحي، يجعل من الصعب معرفة الأنساب على وجه الدقة، فكان يأمرهم بأدب شديد أن يدعوا الخلق للخالق، ويؤكد عليهم المسئوليَّة الفرديَّة، وأنَّ النسب لا ينفع ولا يضر ولا يغني عن الفرد من الله شيئًا لأنَّه: ﴿كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ﴾ (المدثر:38)، ولأنَّه: ﴿وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاء الْأَوْفَى﴾ (النجم:39-41).
لقد اتسعت مدننا، وشاعت الهجرة من الريف إلى المدينة، واضطربت أحوالنا المعاشيَّة، والاقتصاديَّة نتيجة اضطراب السياسات، وغياب التضامن والتكافل، وانفصال السلطة عن المجتمع، وعدم العناية بأبناء المجتمع كلهم، وغياب الأوقاف الإسلاميَّة، ونضوب مواردها، بحيث لم تعد قادرة على القيام بما كانت تقوم به من أدوار في خدمة المجتمع في مرحلة الازدهار الحضاري، وشاعت الفرديَّة، والأنانيَّة، واهتمام الإنسان بنفسه؛ فكثرت أسباب التشرد بين الأطفال والصبيان.
وهناك الطلاق الذي قد يؤدي إلى تشرُّد أبناء الأزواج المطلقين، والإلقاء بهم في الشارع أو هروبهم إليه؛ لأنَّ زوجة الأب التي حلت محل الأم لا تريد أبناء ضرتها معها، وكذلك زوج الأم لا يريد أن يرى أبناءها معها، فلا يكون أمام هؤلاء الأبناء إلا التشرد وتفضيل نار الشارع على جحيم البيت الذي لا يجد فيه طمأنينة ولا سكينة ولا راحة ولا هدوءًا، والخصومات بين الزوجين قد تؤدي إلى ذلك، والفقر وعدم قدرة الأب والأم على القيام بالأعباء الماديَّة لإطعام وإكساء أبنائهم مصدر آخر من مصادر التشرُّد، حيث يدفع هؤلاء إلى الشارع بأبنائهم تخلصًا من أعباء ماديَّة لا يستطيعون القيام بها إلا بصعوبة، والأميَّة وعدم التعلم مصدر آخر أو عامل آخر في فتح أبواب التشرُّد، والهجرة العشوائيَّة من الريف إلى المدينة قد تلقي بكثير من أبناء المهاجرين من الأرياف إلى المدن في الشوارع، وعدم تكافؤ الفرص والظلم الاجتماعي، وضعف الإيمان بالله، وانهيار الإحساس بالمسئوليَّة وما يمكن أن يبتنى على الشعور بها من منظومة أخلاقيَّة، كل ذلك وكثير غيره إضافة إلى الحروب والمنازعات وتأصل العادات السيئة كالثأر وما إليه، كل تلك العوامل قد فتحت الباب واسعًا لتجعل هذه الظاهرة ظاهرة شائعة وخطيرة في مجتمعات المسلمين اليوم.
ولو أنَّ المسلمين التزموا بآداب الإسلام وبما شرع الله في هذه المجالات لما سقطوا في كل هذه الشرور، إنَّ هذا النوع من الأطفال قد أصبح مادة لمدارس عصابات الإجرام، فباعة الحشيش وتجار المخدرات لهم مراكز تدريبيَّة يدربون فيها من يقع اختيارهم عليه من أطفال الشوارع؛ للترويج للحشيش وبيعه وإيصاله إلى شرائح المجتمع كافَّة، والتجَّار القائمون على التسول والشحاذة هؤلاء يجدون أيضًا في طوائف هؤلاء الأبناء من يصلح لأن يدرب ويستفاد به في مجالات التسول، وكل صنوف البلطجيَّة والعصابات التي تشيع الفساد في المجتمع تجعل من تجنيد هؤلاء مصدرًا بشريًّا أساسيًّا لتشكيل عصاباتهم، فإذا كثر هؤلاء شاعت في المجتمع الجريمة بكل أنواعها وانتشرت، وتصبح عمليَّة السيطرة على الجريمة أو منعها أو تقليصها في ذلك المجتمع عمليَّة محفوفة بكل عوامل الفشل.
والصفات الأخلاقيَّة التي يحملها هؤلاء من الحقد على المجتمع والقسوة عليه والرغبة في الانتقام منه وتدميره خلقًا عاديًّا لدى بعض هؤلاء، وسلوكًا قلَّ أن ينجو منه هؤلاء، وآنذاك يصبحون تهديدًا لأمن المجتمع ومصادر خطورة شديدة عليه، وعلى أمنه واستقراره، وقنابل موقوتة، ومصادر جاهزة للإضرار بالمجتمع ومؤسَّساته، فكأنَّه يقول للمجتمع: أنت قد نسيتني وحرمتني من كل ما أحب؛ فلن أجعلك تهنأ بما أنت فيه، أو تتمتع بما كان ينبغي أن يكون لي فيه نصيب.
تقول إحصائيَّة المركز القومي للبحوث الاجتماعيَّة عام 2011 بأنَّ عدد الأطفال بلا مأوى قدر بحوالي اثنين مليون طفل في جمهوريَّة مصر العربيَّة، وفي العالم كله بلغ هؤلاء ما يزيد عن 150 مليون طفل، وكل هذه أرقام تقريبيَّة، فقد يكون الواقع أكثر من ذلك وذلك هو الغالب، وقد يكون أقل، ولهؤلاء لابد من استنفار كل طاقات الأمَّة، وكل إمكانات الشعب لاستنقاذهم واستنقاذ المجتمع مما قد يصيبه نتيجة هذا الخلل والانحراف، والمجتمع قادر على علاج هذه المشكلة إذا تضافرت الجهود، ووجدت المؤسَّسات المدنيَّة الاجتماعيَّة المخلصة التي تأخذ على عاتقها تغيير أوضاع هؤلاء، وإعادة دمجهم في المجتمع، وإنهاء حالات البؤس التي يعيشون فيها.
لقد رأينا قبل سنتين أو ثلاث الجريمة التي عرفت بجريمة التوربيني والتي كانت جريمة مفزعة، وهناك بعض الأفلام والمسلسلات التي سجلت وقائع كثيرة يحسن أن تعرض في المساجد والجامعات والجمعيَّات والمؤسَّسات لاستنفار الجميع لمعالجة هذه الحالة ومحو هذا العار، والتخلص منه إلى الأبد، ولعل لنا أن نقترح المقترحات التالية:
أولًا: أن يلتفت جيشنا الوطني الباسل لهذه الشرائح، ويقوم بتجنيد الأعمار الملائمة للتجنيد منها، وإيداعهم مصحات ومراكز تأهيل نفسي تحت إشرافه، ووفقًا لنظمه لإعادة تأهيلهم للاندماج، ثم تجنيدهم وتعليمهم حرفًا وفنونًا تسمح بإعادة دمجهم في المجتمع، وجعلهم عمَّالًا فنيين يثقون بأنفسهم وبجيشهم وأمتهم، ويدافعون عن البلاد عند الحاجة، ويستردون إنسانيَّتهم على يدي أبنائه، وذلك أمر مهم جدًا لمثل هؤلاء.
المؤسَّسة الثانية يمكن أن تكون الجامعات ودور العلم، بأن تفتح أقسامًا دراسيَّة وكليَّات تربويَّة لإعادة التأهيل، وفي مصر الآن ما قد يزيد على مائة كليَّة للتربية يمكن أن تستقطب الأعمار الملائمة لإعادة تأهيلها وبنائها، ولو تم ذلك بتعاون مع القوات المسلحة لكان أفضل، وكان فيه خير كثير لتلك الشرائح.
ثانيًا: لابد من تجريم أي أحد يعاير أحدًا من هؤلاء أو ينبزه بسوء يجعله يتوارى عن المجتمع، ويعتبر بمثابة قذف، بحيث يعاقب القانون عليه كما تعاقب الشريعة القاذف بحد القذف؛ لكي ينقطع دابر المعايرة والنبز المهين الذي قد يوجه إلى هؤلاء في أماكن إعادة التأهيل.
ثالثًا: أمَّا الأموال فهناك مصادر كثيرة لابد منها، وهنا تستطيع الأوقاف والأزهر ودار الإفتاء من إصدار الفتاوى بتوجيه أموال الذين يحبون تكرار الحج والعمرة وينفقون فيها الأموال الطائلة أن يوجهوا ما ينفقونه في الحج المكرر والعمرات والزيارات على تأهيل هؤلاء، وفي صناديق خاصَّة لهذه الأغراض، وأنَّ ذلك أكثر ثوابًا عند الله (جل شأنه)، إضافة إلى ما يحققه من خدمة المجتمع ونزع عامل من عوامل الصراع والتخريب الداخلي فيه.
رابعًا: لابد من تخصيص بند أو اثنين من مصارف الزكاة لإنقاذ هؤلاء، وتقديم كل عون ومساعدة لهم، كذلك لابد من إيجاد فرص عمل للقادرين عليه منهم بعد إعادة التأهيل النفسي والدمج في المجتمع. كما لابد من الاستفادة من التجارب العالميَّة في استيعاب هذه الشرائح في المجتمع.
خامسًا: محاولة تجفيف منابع التشرد برفع مستوى الثقافة والوعي والمعرفة لدى الآباء والأمهات، وبناء وعي جديد قائم على قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾ (التحريم:6)، وقوله (صلى الله عليه وآله وسلم) في توضيح ذلك: “كفى بالمرءِ إثمًا أنْ يُضيِّعَ مَن يقُوتُ” أو من يعول.
أتمنى أن نجلس لتنظيم حملات توعية في هذا الشأن، تسجل منابع التشرد في المجتمع، وتعالج الحالات القائمة، وإلا فإنَّنا جميعًا مهددون في الدنيا في مصالحنا بل وأنفسنا وأهلينا وأمننا واستقرارنا، ومهددون في الآخرة بالعذاب الأليم. وفي العالم اليوم تجارب كثيرة يمكن اقتباس بعضها، سواء على مستوى إعادة بناء الوعي لديهم أو إعادة وعي المجتمع بهم، وتدبير الموارد اللازمة لإنقاذهم واستيعابهم في المجتمع. فإن لم نفعل ذلك فقد يحق علينا القول، ونندم ولات حين ندم، ونجد مصداق قوله (جل شأنه): ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِن تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ (التغابن:14).
أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.
ثم أمَّا بعد:
لا أجد ما أقوله بعد الذي قلته عن هذه الظاهرة الخطيرة إلا أن أؤكد على دور المسجد في التوعية بهذه الظاهرة، وتحذير الناس من الاستمرار في تجاهلها وعدم العناية بها، وأنَّ المسجد يستطيع أن يؤدي دورًا مع المؤسَّسات التي ذكرناها في العناية بهذه الشرائح، وإنقاذ ما يمكن إنقاذه منها. وليت الذين لا يؤدون زكاتهم في وقتها، ولا يحاولون أن يوصلوها إلى مستحقيها يدركون أنَّ التفريط فيها أو عدم إيصالها إلى من يستحقها في الوقت المناسب يؤدي إلى تهديد المجتمع في أمنه واستقراره، وإلى نشر الجريمة فيه، وليعلموا أنَّ هذا الباب يعتبر من أهم الأبواب لكسب الأجر والثواب للإنفاق من زكواتهم وصدقاتهم عليه، وأنَّه أولى من الحج والعمرة بالنسبة للذين أدوا فريضة الحج مرة واحدة كما فرضها الله (جل شأنه)، فلينفقوا في هذا المجال أموالهم وصدقاتهم، وليوقفوا لها الأوقاف التي تكفل استمرار المؤسَّسات الراعية لهم، ولعله قد آن الأوان في أن يعاد النظر في التشريعات التي تعيد الوقف الخيري، وتحافظ عليه، وتحرسه؛ ليؤدي دوره، ووظيفته في تأمين المجتمع، وإنماء روابطه وعلاقاته.
لا إله إلا الله الكريم الحليم، لا إله إلا الله العلى العظيم، لا إله إلا الله رب السماوات السبع ورب العرش العظيم، اللهم إنَّا نسألك زيادة في الدين، وشهادة عند الموت، وتوبة قبل الموت، وسعة في الرزق، وصحة في الجسد، وبركة في العمر، ونصيبا من الجنة، وأمانًا من العذاب، وعفوًا عند الحساب، ومغفرة بعد الموت، اللهم ارحم موتانا وموتى المسلمين واشفِ مرضانا ومرضى المسلمين، اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات، اللهم ارزقنا قبل الموت توبة وعند الموت شهادة وبعد الموت جنة ونعيما.
أقول قوي هذا واستغفر الله لي ولكم.