أ.د/ طه جابر العلواني.
تكثر أحيانًا الأسئلة من بعض الشباب عن أشخاص لهم وجود في ساحات الفكر الإسلامي المتعددة، فيقال: ما رأيك بالمفكر فلان، أو السيد فلان، ويريد السائل ذلك في “برشامة”، ويكثر مني الاعتذار عن الإجابة على هذا النوع من الأسئلة؛ فيضطرب بعض القراء في فهمهم لاعتذاري هذا، وتفسيرهم له، فوددت أن أبيِّن أسباب تحفظي على إبداء الرأي في أساتذة وأقران وزملاء وتلامذة بذلك الشكل المطلق، فيلومني البعض ويعذرني الآخرون، فوددت أن أسجِّل هذه الملاحظة للائمين والعاذرين على حد سواء، لعل في ذلك ما يساعد على بيان حقيقة الموقف، فأقول وبالله التوفيق:
“علوم الرواية” في تاريخنا قد فرضت على أسلافنا تأسيس ما عرف ب”علوم الجرح والتعديل أو التوثيق”، وكان لذلك آثار كبيرة في تاريخنا وثقافتنا، ما تزال منذ نشأ ذلك المبدأ في القرن الثالث الهجري وحتى يومنا هذا سارية مؤثرة في ثقافتنا. وكثيرًا ما افترق الناس واشتدت الخلافات بينهم للمساس بشخص أو لإعلاء شأنه دون استحقاق في نظر الآخرين، ولسنا بحاجة إلى مزيد من منابع الاختلاف والشقاق، فهذا يزكي فلانًا ويوثقه، وآخر يضعّفه ويطعن فيه!! وقد آن لنا أن نتعلم كيف نعرف الحق لذاته وبذاته وبوسائله، ولا نعرفه بالرجال الناقلين له أو القائلين به، أو المتبنّين له، فالحق حق، والصواب صواب، والباطل باطل، والخطأ خطأ، وعلينا أن نعرف ذلك كله بمناهجه لا بقائليه وسمعتهم.
أمَّا السائلون أو المتسائلون عن الرجال في يومنا هذا، فالأسئلة أنواع: فهناك أسئلة يراد بها الإحراج، وأسئلة يراد بها التشكيك في السائل أو المسئول أو كليهما، أو الكشف عن الصلة بينهما، والإشارة إلى أنَّهما ينتميان إلى اتجاه محدَّد أو فئة معيَّنة أو غير ذلك، ولكن حين نتعلم كيف نعرف الرجال بالحق بدلًا من أن نعرف الحق بالرجال ــ آنذاك ــ سننمي حاسة النقد والمتابعة والبعد عن التقليد، والنأي عن التبعيَّة، ونقترب تمامًا من الموضوعيَّة، وقد أثر عن ابن عباس أو غيره أنَّه قال: استمعوا علم العلماء، ولا تصدقوا بعضهم على بعض، فوالذي نفسي بيده لهم أشد تغايرًا من التيوس في زروبها. وسواء اتفقنا مع هذا الأثر أو خالفناه، فإنَّ فيه شيئًا من الحقيقة.
والتوثيق والتضعيف قد احتل حكمه في تراثنا مواقع هامَّة، فمنهم من منع اغتياب الناس بتوثيق وتضعيف؛ تورعًا عن أن يكون الناس بخلاف ما ذكر الموثق أو المضعف فيكون فاعل ذلك كاذبًا، وأجازه قوم بتفصيل، وقالوا: إذا توقفت مصلحة دينيَّة على عمليَّة التوثيق والتضعيف فإنَّ ذلك جائز بل ذهب بعضهم إلى إيجابه، وأنَّه يأخذ حكم الشهادة في هذه الحالة، إلى غير ذلك من تفاصيل. إنَّ القاعدة الذهبيَّة تقول: “إن كنت ناقلًا فالصحة ــ أي فتحرى صحة المنقول ــ وإن كنت مدعيًّا فالدليل”.
وكلنا أمل أن يخرج شبابنا من تلك الحاصرات التي يحصرون عقولهم بها، فيوثق العالم أحيانًا بانتمائه إلى جماعة معينة، وهذا يذكرني بالتحيُّزات التي كانت تجري في العهود المختلفة في بلدي العراق، حين كان البعض إذا أراد الإيصاء بأحد للحصول على وظيفة أو أرض أو ما شاكل؛ يكتب قصاصة لمن يعرفه، يقول فيها: “هذا من الطينة يلزم تعيينه”. فأصحاب الأيدولوجيَّات والجمعيَّات والجماعات كثيرًا ما يوثقون بالانتماء ويضعفون رجال غيرهم من المنتمين إلى الطوائف الأخرى.
ومن اتيحت له الفرصة للقراءة في كتب التضعيف والتوثيق يرى العجب العجاب، فالإمام الشافعي على سبيل المثال ــ يرحمه الله ــ وقد تمذهبت بمذهبه سنين عددا، كُتِب في مناقبه أربعون كتابًا أو يزيد، وإذا زرت ضريحه تجد حديثًا ــ أعتبره من موضوعات الشافعيَّة: “عالم قريش يملأ الأرض علما”، وقد وضع المصريُّون على أعلى القبة المبنية على قبره سفينة؛ لتشير إلى أنَّ تحتها بحر من العلم. ووضع الحنفيَّة مقابل هذا حديثًا لصالح أبي حنيفة، وترجيح مذهبه، فقالوا: “لو كان العلم في الثريا لناله رجال من فارس”، إلى غير ذلك.
والإمام الشافعي نفسه في الوقت الذي كتبوا في مناقبه أربعين كتابًا، وأشادوا به كل تلك الإشادة يقول سفيان بن عيينة لأحمد بن حنبل: بلغني يا أحمد أنَّك تمسك بزمام دابة هذا الفتى القرشي ليركب، وأنت عندي أعلى وأجل قدرًا من ذلك، فأجاب أحمد ليتك تمسك بزمامها من الناحية الأخرى لتستفيد علمًا كثيرًا. ونقل عن سفيان أنَّه حين سئل عن الإمام الشافعي أجاب: إن هو إلا فتى قرشي يتشيع. وحينما نرجع إلى كتاب إمام الحرمين (مغيث الخلق) نجد هجومًا على أبي حنيفة غير لائق مع جلالة قدر الإمام أبي حنيفة الذي منحه أتباعه لقب الإمام الأعظم، وعده إمام الحرمين ممن لا يليق أن يطلق عليه عالم أو مجتهد، فتأمل!. وحين تقرأ في الجرح والتعديل وكتبه ترى العجب العجاب.
فنرجو أن تتعلم الأجيال الطالعة من الدروس والعبر ما يجعلها أكثر جديَّة في الحياة، وأقدر على استعمال عقولها، وأبعد عن التقليد والتبعية. أعرفت يا أخي لماذا أعتذر عن تقييم الأشخاص؟.