Menu
منهجية التعامل مع التراث الإسلامي - مراجعة لكتاب من أدب الاختلاف إلى نبذ الاختلاف - أُمْنِيّة أهلِ السجود([1]) - The future of Islam in America and west - جانب من جلسات فريق باحثي الأزهر للعمل على وضع منهجية مراجعة التراث - حوار حول الربيع العربي - الإسلام والمسلمون من وجهة نظر غربية - برنامج اخترنا لمكتبتك - معالم في المنهج القرآني - ومضات فكرية

فقه الأولويَّات

 

أ.د/ طه جابر العلواني

إنَّ الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستهديه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئآت أعمالنا.

أمَّا بعد:

عرف فقهاؤنا قضيَّة الأولويَّات في كثير من أبواب الفقه، وجوانب التدين، ومن العسير أن نجيل أنظارنا في أي كتاب فقهي ولا نجد فيه عبارة: وهذا خلاف الأولى. بحيث أصبحت هذه العبارة بمثابة قاعدة من القواعد التي تتردد في كثير من القضايا، ويشيع استعمالها في أمور كثيرة من أمور الحياة، ووفق الفقه المقارن وتقديم الملاحظات على اجتهادات بعض المجتهدين كثيرًا ما تتردد عبارة: بذلك أفتى فلان، وهذا على خلاف الأولى أو وهو الأولى.

وقد جاء في كتاب الله (جل شأنه): ﴿.. فَأَوْلَى لَهُمْ * طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ .. (محمد:20-21)، وقال (جل شأنه): ﴿أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (القيامة:34)، وهناك صلة وثيقة بين الأولويَّة والأيلولة، فالأيلولة من آل يؤول تعني: المآل والمصير، والأولويَّة تعني: التقدم والأفضليَّة، وأن يترتب على الشيء غيره، فيقال: الأولى للمتقدم زمانًا، وللمتقدم رياسة، وقد يقال: كان الأولى بك أن لا تفعل، تحذيرًا عن أمر عاقبته سيئة.

        وعلى سائر الأحوال فإنَّه أمر شائع في مختلف شئون وشجون الحياة أن نجد أمورًا أولى من غيرها، ومتقدمة على سواها، ومن شأن العقلاء وأهل الحكمة أن يقدموا الأولى فالأولى، وذلك أمر قد لاحظه الفقهاء وأهل الفتوى والاجتهاد من علمائنا، وكثيرًا ما يلاحظه أهل المسئوليَّات في ذلك المجال. فعلى سبيل المثال حين يكون هناك حرب مع عدو خارجي قد يحتل البلاد ويستذل العباد؛ فإنَّ الأولى بأهل ذلك البلد أو الثغر أن يوجهوا جهودهم كلها لدفع العدو الصائل، ورده خائبًا، وحماية البلاد والعباد، فإذا انشغل أحد بغير ذلك أو حاول أن يشغل الناس بغير ذلك فبحكم فقه الأولويَّات يقال له: الأولى أن تتجه الجهود كلها إلى هذا الجانب. حتى إنَّ بعض الفقهاء قالوا: لو أنَّ شخصًا ما شَرِق أو غص وهو يأكل، ولم يجد ما ينقذه من الاختناق إلا خمرًا بدلًا من الماء؛ فقالوا: له أن يستعمل الخمر؛ لإنَّ إنقاذ النفس مقدم على قضيَّة تحريم الخمر.

وفي شئون الناس وشجونهم إذا كان هناك جوع فالأولى أن توجه الجهود كلها لمكافحة الجوع، وتنمية الزراعة، وتوفير الغذاء، وتحقيق الأمن الغذائي، وإذا حصل شح في المياه يهدد الزرع والضرع والحياة في بلد فالأولى أن توجه الجهود كلها إلى توفير مصادر المياه وحمايتها، والاقتصاد بها، وأباح كثير من الفقهاء التيمم لمن لا يجدون ماءً يكفي لشرابهم، ويخشون أن لا يتوفر الماء لهم قبل أن يصلوا إلى حالات حرجة؛ لأنَّ الحياة مقدمة، والنفس مقدمة على واجب الوضوء.

        ومعظم الاختلافات بين الناس تقدم في هذه الدائرة، فالإنسان يجد نفسه أحيانًا تحت ضغط ظروف معينة، تفرض عليه أن يحدد ما هو أولى بشكل معين، في حين يرى آخرون أنَّ الأولى شيء آخر غير ذلك، فتختلف وجهات النظر، وقد يحتدم الجدل، وتظهر خصومة على تحديد ما هو أولوي وما يمكن أن يؤخر، وبلاد المسلمين، العربيَّة منها بصفة خاصَّة في هذه المنطقة من العالم فيها فقر، وجوع، ونقص من الأموال، والثمرات، وهناك شح في المياه ومواردها، وكثير من الخبراء يقررون أنَّ الحروب القادمة في هذا القرن ستكون غالبًا نتيجة صراع على المياه، وهنا يتخذ مجال توفير المياه وحماية مواردها ومصادرها أولويَّة على غيرها، وحين يكون الناس تحت خط الفقر في بلدان كثيرة من بلاد المسلمين يصبح الفقر هو العدو الأول، وفقه الأولويَّات يفرض أن تجنَّد الطاقات كلها للخروج من تلك الحالة، وتوفير ضروريَّات الناس.

فالأولويَّات وفقهها يعتبر من أهم أنواع الفقه، وتحديد ما هو أولويٌّ وما هو ليس كذلك يحتاج إلى العقول الناضجة، والآراء الراشدة، والأقوال السديدة؛ لكي يعرف الناس سلَّم الأولويَّات، ويشيع بينهم فقه الأولويَّات، وتتفق كلمتهم على ما هو الأولى لهم؛ فلا يحيدون عنه قبل تحقيقه، وأمَّتنا تعاني من فقر في بعض مناطقها، وتخمة في مناطق أخرى، وجهل، وأمراض تشيع هنا وهناك، وتنتشر في هذه الأرض أو غيرها، فنحتاج إلى تضافر الجهود لتحديد الأولويَّات.

        وحينما تكون هناك انتخابات، أو استحقاقات سياسيَّة فإنَّ الذين يدركون أولويَّات الأمَّة ويعملون على معالجة الأمور وفقًا لوعيهم بها هم أولى الناس بأن يمنحوا الثقة، وتقبل برامجهم وسياساتهم وخططهم، وللأمَّة ضروريَّات وحاجيَّات وتحسينيَّات أو كماليَّات، ولا مراء أنَّ الضروريّ مقدم على الحاجيّ، وأنَّ الحاجيّ مقدم على التحسينيّ، فلابد من وعي الأمَّة بحالها؛ لتعرف أولويَّاتها، ومن خطل الرأي أن تطرح شعارات لا تقوم على هذا الفقه ولا تنبثق عنه؛ لأنَّها لن تجد من الناس آنذاك إلا صدودًا. وفقه الأولويَّات ينبغي أن يكون فقهًا عامًا يشيع بين سائر فئآت الأمَّة، بحيث يدرك كل أبناء الأمَّة الأولويَّات، ومراتبها ومستوياتها، ثم ترسم الخطط المتينة المناسبة لتنفيذ تلك الأولويَّات وتفعيل ذلك الفقه.

وما التخطيط والتدبير والسياسة الشرعيَّة وغيرها من مصطلحات إلا أمور نودي بها لخدمة هذا الفقه والتأصيل له، وجعله جزءًا من ثقافة الشعوب والأمم، وكذلك القاعدة المشهورة: درأ المفاسد مقدم على جلب المصالح. هي قاعدة قائمة على ذلك الأساس المتين من فقه الأولويَّات. إنَّ الإعلام الرشيد، والتعليم القويم، والدور الهام للمسجد يمكن أن يؤدي إلى إشاعة الوعي بالأولويَّات، والفقه فيها، وهي أساس يمكن أن يحاسب كل منا الآخر انطلاقًا منه، وهي مقياس في الوقت نفسه يقاس به أداء الحكم الرشيد، المحقق لمصالح العباد والبلاد.

أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين، والصلاة، والسلام على أشرف المرسلين، سيدنا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم).

أمَّا بعد:

فإنَّ الجامعات والتعليم بصفة عامَّة يستطيع أن يؤدي أدوارًا بالغة الأهميَّة في بناء الوعي الشعبي على فقه الأولويَّات، وخطيب الجمعة والمسجد ودور العبادة بصفة عامَّة مع الإعلام يمكن أن تؤسس لهذا الفقه، وتجعله جزءًا من ثقافة الأمَّة ولو بعد حين، بذلك نقلل الاختلافات بين الناس، ونحسن توجيه طاقاتهم إلى الأولى فالأولى من الشئون، ونحقق مصالح بلادنا، وندرأ المفاسد عنها بإذن الله ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (النحل:97)، إنَّ أهم بند ينبغي أن تتضمنه خرائط الطرق ومسالك الإصلاح والتغيير والتجديد هو أن تتبنى هذا الفقه وتنميه، وتشيع الوعي فيه.

 سائلين العلي القدير أن يهيئ لهذه الأمَّة أمر رشد يعز فيه أهل الطاعة، ويذل فيه أهل المعصية، إنَّه سميع مجيب. ﴿رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ * رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (آل عمران:193-194)، ﴿.. رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَآ أَنتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (البقرة:286)، ﴿إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُواْ الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (النحل:90-91).

أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *