التديُّن الفطري
الحلقة الخامسة والعشرون
أ.د: طه جابر العلواني
كنت قلقًا أشد القلق على علاقة الشعب المصري بالدين بعد الذي حدث خلال السنتين الماضيتين من تعبئة نفسيَّة استهدفت النفس المصريَّة وعلاقتها بالدين، حيث حاولت أجهزة إعلاميَّة عملاقة أن توحي بأنَّ التدين مقدمة لانحرافات لا حصر لها، أقلها بناء روح الاستعلاء على الآخرين ونزعات الإعجاب بالنفس وتحقير الآخرين لدرجة التكفير أو التفسيق أو التبديع، والرغبة بالتفرد بكل شيء، والنظر السلطوي تجاه الآخرين، والدعوة بأنَّ هذا من نصيب الجنَّة وذاك من نصيب النَّار … إلى آخر ما هو معروف من أمور.
والإنسان المعاصر يوصف بأنَّه حيوان إعلامي يملأ إعلاميًّا ويفرغ إعلاميًّا، لكن من يشاهد الشوارع المصريَّة ساعة غروب الشمس وعند وجوب الإفطار ويرى تنافس بسطاء الناس وفقراءهم قبل أغنيائهم في الشوارع لتقديم ما يفطر الصائم عليه من بلح أو تمر أو عصائر؛ يطمئن إلى أنَّ التدين الفطري لم ينتزع من قلوب المصريين أبدًا، وأنَّ أيَّة وسائل إعلاميَّة أفرزها العصر لن تكون قادرة على إيجاد حواجز نفسَّية بين الدين وأهله، والمصريين كلهم له أهل.
وأنَّ أيَّة محاولات إعلاميَّة أو غيرها سوف تبوء بالفشل، وتقصر عن أن تنال من إيمان المصري وتدينه، فالإيمان بخير وفي جذر قلوب المصريين، ولن ينتزعه أحد ولا فتن ولا اختلافات، وقد أعاد إلى ذاكرتي النقاش الذي يتقنه الأزهريون حول مسألة نقص الإيمان وزيادته بالأعمال، وهل الإيمان يمكن أن يكون موضع زيادة ونقص؟ وهل يكون العمل مؤثرًا في زيادة الإيمان أو نقصه؟
فوجدت من خلال ملاحظة هذه الظواهر أنَّ إيمان المصري ثابت لا يتغيَّر، قد يزيده العمل الصالح ثباتًا، لكن الأعمال الأخرى لا تزيله ولا تبلغ جذوره، فكأنَّه يقول: “اللي في القلب في القلب يا …”.
وهكذا شعرت بنوع من الطمأنينة بعد أن كادت تفارقني لفترة من الزمن، وأدركت أنَّ تلك الجهود البسيطة العفويَّة في تقديم هؤلاء البسطاء للصائمين على الطرق وفي المساجد وخارجها ما يفطر الصائم عليه ويتبلغ به حتى يصل داره علامة فارقة قد لا تراها إلا في الحرمين الشريفين وبعض الأماكن المماثلة.
اللهم أدم على المصريين نعمة الإيمان، ونتوسل إليك ونحن نودع الشهر الكريم بأن تقرن بها نعمة الأمان والطمأنينة للمصريين كافَّة، إنَّك سميع مجيب.