Menu
منهجية التعامل مع التراث الإسلامي - مراجعة لكتاب من أدب الاختلاف إلى نبذ الاختلاف - أُمْنِيّة أهلِ السجود([1]) - The future of Islam in America and west - جانب من جلسات فريق باحثي الأزهر للعمل على وضع منهجية مراجعة التراث - حوار حول الربيع العربي - الإسلام والمسلمون من وجهة نظر غربية - برنامج اخترنا لمكتبتك - معالم في المنهج القرآني - ومضات فكرية

المسئوليَّة (8) مسئوليَّة المرء عن عمره

أ.د/ طه جابر العلواني

إنَّ الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستهديه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئآت أعمالنا.

أمَّا بعد:

أخي القارئ الكريم، قليلًا من وقتك لمتابعة هذا الحوار النافع:

قال التلميذ لأستاذه: لقد علَّمتنا ــ أيُّها المربي القدير ــ إنَّ مسئوليَّتنا الأساسيَّة المباشرة أبعد مدى من أن تبرز حدودها في تلك العبارة المشهورة: مسؤوليَّة كل امرئ عن عمل نفسه، وقد أرشدتنا إلى الطريقة المثلى في تحديد هذه المسئوليَّات، إذ وصيتنا بأن نقيسها من أبعادها الثلاثة؛ من ناحية عُمقها، ومن ناحية اتساع أفقها، ومن ناحية ارتفاعها. ثم بدأت بأن بيَّنت لنا ماذا تعني بامتداد مسؤوليَّاتنا من جهة العمق؛ إذ عرَّفتنا أنَّنا لن نحاسب على أقوالنا وأفعالنا الظاهرة فحسب، ولكنَّنا سنسأل كذلك ــ بل قبل ذلك ــ عن أعمال قلوبنا؛ عن عقائدنا وإرادتنا ونيَّاتنا. ذلك أنَّ القلب هو الأساس الذي إذا قوي استمسك البنيان كله، وإذا وهى تداعى البنيان كله.

هذه إذًا واحدة قد وعيناها. فهات لنا الثانية إن شئت، ماذا تعني بامتداد مسؤوليَّاتنا امتدادًا أفقيًّا؟.

قال المربي: أريد يا بني أن أوجه نظرك ها هنا إلى حقيقة مهمة، يغفل عنها أكثر الناس، فأكثر الناس يظنُّون أنَّنا مسؤولون عن العمل، وعن رأس مال العمل.

قال الطالب: وما رأس مال العمل في موضوعنا؟.

قال المربي: كل وسائل العمل وأدواته. ألا تدري أنَّ مواهبك الماديَّة والمعنويَّة، ومقدَّراتك الذاتيَّة والخارجيَّة كل أولئك أنت مسؤول عنه؟.

قال الطالب: أراك تعُدّ أشياءً ليست من صنعتي، ولا تدخل تحت إرادتي. فكيف أسأل عما لم أصنع؟. أم لعلك تريد أن تقول إنَّنا مسؤولون عن صيانة هذه المواهب ورعايتها، وعن حسن التصرف فيها، وحُسن الانتفاع بها؟!.

فإن كان ذلك هو ما تقصد إليه، فقد رجعت المسألةُ إلى نوع واحد، وأصبح موضوع المسؤوليَّة دائمًا هو العمل، ولا شيء سوى العمل.

قال المربي: لو أمعنت النظر قليلًا لانكشف لك الأمر عن سؤالين مختلفين: سؤال عن عملك الذي صنعت، وسؤال عن وسائل العمل التي استخدمت.

قال الطالب: من أين لنا هذا؟

قال المربي: من كتاب الله. أمَّا السؤال عن العمل، فإنَّ الله (تبارك وتعالى) يقول: ﴿فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِيْنَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (الحجر:92-93). وأمَّا رأس مال العمل، فحسبك أن تسمع فيه قول الله تعالى ﴿.. إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً (الإسراء:36). وقوله تعالى في الآية الأخرى ﴿ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (التكاثر:8) .

قال الطالب: أليس مضمون السؤالين واحدًا، وإن وضعا في صيغتين مختلفتين؟

قال المربي: لو كان ذلك لهان الأمر، ولكن هيهات!. إنَّهما سؤالان جدّ مختلفين، وإن الإجابة عن ثانيهما هي أشق وأدق الإجابتين.

قال الطالب: أرغب إليك أن تبيِّن لي هذا بيانًا شافيًا.

قال المربي: ألق سمعك، وأيقظ قلبك.. أرأيت لو أنَّ رجلًا أعطاك قدرًا من المال لتتجر له به، أتراه يتولى بنفسه رسم خط سيرك في التجارة تفصيلًا وتحليلًا، حتى يعيِّن لك السوق التي تشتري منها، والسوق التي تبيع فيها، ويحدد لك ثمن كل سلعة في شرائها وفي بيعها، ويضع لك صيغة الدعاية لترويجها، وهلم جرا، حتى تصبح في يده آلة كاتبة أو حاسبة؟.

قال الطالب: كلا. وإنَّما يرسم لي الخطوط العريضة التي يحدد بها حقوقي وواجباتي، ثم يكِل ما وراء ذلك إلى تقديري وتدبيري. وهكذا يعاملني كما يعامل شخصًا مسؤولًا عن تثمير ماله وازدهار تجارته.

قال المربي: حسنًا. فإذا اكتفيت بتطبيق نصوص العقد الذي بينك وبينه، فلم تترك فيها التزامًا صريحًا إلا وفيته، ولا محظورًا صريحًا إلا تحاميته، ولكنَّك قعدت بعد ذلك فارغًا غافلًا، فتركت البضاعة يتراكم عليها التراب، وتنسج عليها بيوت العنكبوت، ولم تُبد فطنة ولا حذقًا ولا مهارة، فيما وكله إلى تدبيرك وتقديرك وإلى فطنتك وحذقك ومهارتك.. أتظن أنَّك بهذا تكون قد أديت كل رسالتك، وأخليت نفسك من كل مسؤوليَّتك؟. ألست ترى أنَّك على العكس، تكون قد ضيعت من أمانتك أعظم شطريها، وأخللت من مسؤوليَّتها بأدق وأشق ركنيها؟.

قال الطالب: بلى.

قال المربي: فذلك مثل ما منحك الله من القُوى والملَكَات والمواهب؛ في سمعك وبصرك ولسانك وعقلك وجوارحك وما آتاك من رزق، في مالك وعشيرتك وإخوانك وأعوانك، وما سخَّر لك من وقت مُد به في حياتك وعمرك. لقد جعل ذلك كله رأس مال لك؛ ثَبَّتَ به قدمك على الأرض، ورَفَعَ به رأسك إلى السماء، وطلب إليك أن تُنمي هذه الثروة كلها، بالعمل بها في كلا المجالين؛ تحصيلًا لمعاشك وتأمينًا لمعادك، وإحسانًا إلى الخلق، وعبادة للخالق. وقد حظر عليك محظورات عيَّنها، وكتب عليك فرائض بيَّنها، ثم رسم لك قواعد عامَّة لتثمير هذه الثروة، في سُبل البر والتقوى والعمل النافع، وترك لتدبيرك وتقديرك اختيار الأسلوب المعين، الذي تختاره لتثميرها في داخل هذا النطاق العام، فهل لك بعد ذلك أن تجيئ فتقول: إذا أديت الفرائض واتقيت المحارم فلا عليّ أن أعمل أو لا أعمل؟!.

كلا. إنَّ الله لا يحب أن يراك فارغًا عاطلًا، ولكن يحب أن يراك كادحًا عاملًا. إنَّ كل فترة ــ من الفُتُور ــ في جهدك، وكل تراخٍ في نشاطك، تعطيل للثروة التي أمرك بتثميرها. وإخماد للروح التي ندبك إلى تزكيتها: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا (الشمس:9-10).. إنَّ الاسلام دين نشاط وعمل، لا دين قعود وكسل، إنَّه عملٌ للآخرة والدنيا جميعًا.. انظر في القرآن الكريم إلى صفات المؤمنين.. وصفات عباد الرحمن..وصفات المحسنين: ﴿تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ .. (السجدة:16). ﴿وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا (الفرقان:64). ﴿كَانُوا قَلِيلًا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ * وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (الذاريات:17-19).. هذا عملهم للدين. أمَّا عملهم للدنيا، فكل الديانات المعروفة تحظر على أتباعها العمل يومًا كاملًا في الأسبوع، وليس في الإسلام عطلة واجبة إلا ساعة من نهار في كل جمعة ﴿.. إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ .. (الجمعة:9). ﴿فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ .. (الجمعة:10).. لا تقل إذًا: لقد أديت فريضتي، فلأقتل وقتي في اللهو واللعب. كلا، إنَّ وقتك هو ثروتك، هو رأس مالك، هو حياتك. لا تقتل وقتك فتقتل نفسك. إنَّ كل دقة من دقات قلبك، وكل لمحة من لمحات بصرك، وكل خفقة من خفقات نفسك، تهتف بك: هل ضيعتني، أم في شيء من الخير اغتنمتني؟. ألم تسمع إلى قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): “لا تزول قَدَمَا عبد يوم القيامة حتى يُسأل عن خمس….”، فجعل أول المسائل الخمس سؤال كل امرئ: “عن عمره فيم أفناه” ..أي: عن وقته فيم ضيعه. بل ألم تسمع إلى قول الله تعالى: ﴿فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ (الشرح:7) … إذا فرغت من عمل، فاشغل نفسك بعمل.. إذا فرغت من عمل لدينك، فاشتغل بعمل لدنياك، وإذا فرغت من عمل لدنياك، فاشتغل بعمل لدينك. إذا فرغت من حاجة بدنك فخذ غذاءًا لعقلك، أو متعة لروحك. وإذا فرغت من شأن نفسك، فأقبل على شأن أُسرتك، ثم على شأن أمتك.. وهكذا .. لا فراغ.. لا فراغ..إلا استجمامًا وتأهبًا للعمل. إنَّه لا يركن إلى الفراغ إلا الفارغون: ﴿اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مَّعْرِضُونَ (الأنبياء:1).

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين، والصلاة، والسلام على أشرف المرسلين، سيدنا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم).

أمَّا بعد:

هناك أحاديث كثيرة وقصص نشرها الوعَّاظ والقصَّاصون، ومتحدثو المجالس، التي كانت تستخدم للترفيه عن الناس مثلما يستخدم الراديو والتلفاز ووسائل الإعلام المعاصرة، عوَّدت الناس على المبالغات الخطيرة في نسبة الثواب العظيم للعمل البسيط، فشكَّلت نوعًا من الثقافة التى ترى أنَّ المسئوليَّة الفرديَّة هي الأساس في الوصول إلى الجنَّة، فمن قام بها وزاد خيره على شره فذلك يكفيه لاجتياز الاختبار الإلهي في الآخرة، والدخول إلى الجنَّة بغير حساب أو بحساب، فلم تعد مشاعر الإنسان تجاه مجتمعه وجيرانه وأهل بلده حيَّة متحركة تجعله أو تجعل الفرد يشعر بمآسي الجميع وأوجاعهم وانحرافاتهم حتى صار شعار بعض الناس: أنج سعد فقد هلك سعيد، أو كما يقول الشاعر:

وما أبالي إذا نفسي تطاوعني *** على النجاة بمن قد مات أو هلكا.

وهذه الثقافة ذاتها هي التي جعلت الكثيرين يستسهلون ثمن الجنَّة، كأنَّ يقول بعض القصاصين أحاديث ينسبونها إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إنَّ من قال في اليوم والليلة كذا بعدد كذا بني له عدد كذا في الجنة من القصور وزوج بكذا من الحور إلخ. هذا النوع من الثقافة جعلت الإنسان قد يستهتر بكثير من المسئوليَّات، ويفرِّط بالواجبات، ويجترئ على المحرمات؛ أملًا بأن يقول بعض الأذكار أو الأدعية فيحصل على تلك النتائج المبهرة التي ذكرها القصَّاصون.

كما أنَّ طول الأمل والإقبال على الدنيا وزخرفها ونسيان الموت أو تناسيه يجعل الإنسان من المسوفين، الذين يرون أنَّ في الحياة فسحة طويلة سوف تسمح لهم بأن يتلافوا أي نقص، كذلك الانحراف في فهم التوبة وشروط قبولها، وعدم الالتفات الكافي إلى حقيقة التوبة كما هي في القرآن الكريم وضوابطها وشروط قبولها؛ تجعل بعض الناس يكثرون من التسويف ويستسلمون لطول الأمل، ويقولون: سيغفر لنا، وسوف نتوب قبل الموت، ونستغفر فيتوب الله علينا. وهكذا يستغل الشيطان هذا النوع من سوء الفهم والانحراف عن كتاب الله وهدي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في فهمه وتلاوته فيضلون السبيل، ويسقطون في دركات الضلالة، فحذار حذار أن يسمح المسلم للشيطان أن يستبد به، ويستغل قدرته على الوسوسة له في تغيير المفاهيم والمعاني، فيجعل أسباب الهداية حبالًا إلى الغواية والانحراف.

اللهم اهدنا فيمن هديت، وتولنا فيمن توليت، وقنا واصرف عنا شر ما قضيت، برحمتك يا أرحم الراحمين.

أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *