Menu
منهجية التعامل مع التراث الإسلامي - مراجعة لكتاب من أدب الاختلاف إلى نبذ الاختلاف - أُمْنِيّة أهلِ السجود([1]) - The future of Islam in America and west - جانب من جلسات فريق باحثي الأزهر للعمل على وضع منهجية مراجعة التراث - حوار حول الربيع العربي - الإسلام والمسلمون من وجهة نظر غربية - برنامج اخترنا لمكتبتك - معالم في المنهج القرآني - ومضات فكرية

أنا والتصوير

أ.د/ طه جابر العلواني

كنت أوصي تلامذتي ومن يستفتوني بأن يتوجهوا إلى المفتين، والمجامع التي فيها قادرون على الفتوى في هذه الأمور، أمَّا أنا فلا أعدو أن أكون باحثًا يمكن أن أكتب بحثًا يستطيع من شاء أن يضمه إلى مدخلات معرفيَّة؛ قد يستنبط منها فتوى، وقد حدث أن أثيرت في أمريكا قضيَّة تصوير مجموعة من الأنبياء منهم سيدنا موسى، وداود (عليهما السلام)، وسيدنا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، وسألتني المحكمة العليا عن موقف الإسلام من الإطار الذي أهدته إيطاليا إلى المحكمة العليا الدستوريَّة في أمريكا يتضمن عشرة صور وأسماء لأهم الشخصيَّات التي قامت بتقديم تشريعات إلى البشريَّة عبر التاريخ البشري، وكان من بينهم سيدنا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم).

 وكانوا قد صوروا سيدنا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بصورة عربي يعتمر الغترة والعقال، ويرتدي العباءة، وتحتها قفطان وجلابيَّة، وفي يمينه كتاب، كتب عليه القرآن والشريعة، وفي يساره سيف، مع تعليق مكتوب بأنَّه (صلى الله عليه وآله وسلم) جاء الناس بشريعة، وعمل على فرضها بالسيف. وقد علم المسلمون بوجود هذه الصورة المجسمة ضمن عشرة من أشهر من أسَّسوا قوانين للبشريَّة، مثل موسى وجستنيان، وآخرين، ودعى بعض المسلمين إلى التظاهر والاعتصام؛ حتى تغيِّر المحكمة الدستوريَّة العليا هذا المجسم، وترفع منه صورة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).

 وكان لي رأي آخر، فالغرب دائمًا يقدم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على أنَّه قاتِل اليهود، ويحاولون أن يصفوه بما وصفوا به هتلر، وبعضهم يراه محاربًا غازيًا لا يحسن إلا صنعة القتل والقتال، والحرب والغزو، وما إلى ذلك، فكنت أقول لبعض الغاضبين من قادة المراكز والمساجد والتجمعات الإسلاميَّة في أمريكا بأنَّها المرة الأولى التي يُقدَّم فيها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى الغربيين على أنَّه من صنَّاع القوانين، وأنَّه واحد من أشهر عشرة عرفتهم البشريَّة في صناعة القوانيين والشرائع، وبالتالي فلا ينبغي أن يستبد بنا الغضب إلى ذلك الحد، الذي قد يضعنا في عِداد من يُهين المحكمة الدستوريَّة التي تعتبر في نظر الأمريكان خطًا أحمر، ومؤسَّسةً لها قداسة ما.

وطلبت أن يعالج الأمر بحكمة، وكتبت في ذلك بحثًا قيِّمًا في خمس وأربعين صفحة، نشَرَته مجلة القانون هناك، وعلمت أنَّه قد جرى تداوله بين طلبة كليَّات الحقوق والمحامين والقضاة بشكل واسع، كما أنَّ المحكمة الدستوريَّة قد أبدت احترامها لما ذكرت، وبيَّنت في بحثي أنَّ قضيَّة التصوير قضيَّة حضاريَّة ثقافيَّة، أكثر منها قضيَّة دينيَّة، ولا أدري حقيقةً إن كان البحث قد نشر بالعربيَّة أم لم ينشر، وهكذا عودت نفسي أن أبتعد عن الفتوى بلا ونعم، يحل ولا يحل، يكفر أو يبدع، واستبدلت ذلك بكتابة دراسة وبحث أتطرق فيه إلى مختلف الجوانب في المسألة، وأجعل الراغبين في معرفة الحكم قادرين على معرفته بدليله وحيثيَّاته؛ ولذلك فإنَّني أنصح من يتصدون لهذه القضايا أن يجربوا هذا المسلك؛ لأنَّه يجعل القارئ والسائل يشاركان الباحث في الوصول إلى الحكم بشيء من المعاناة والجهد المشترك، فلا يتعود الناس التبطُّل والاتكال على الغير في معرفة الأحكام.

ومذهبي في هذا مثل مذهب ابن حزم ــ رحمه الله ــ الذي كان يرى الاجتهاد واجبًا على كل أحد من المسلمين، سواء أكان عاميًّا أم مجتهدًا، فالعامي يستطيع أن يجتهد في اختيار من يفتيه، ولا يقلِّد اعتمادًا على الشكل والملابس الرسميَّة للمشايخ، بلا اعتمادٍ على تقوى المفتي وسعة علمه، ومدى التزامه بالدليل الشرعي من عدمه. والله أعلم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *