أ.د. طه جابر العلواني
تأملت المقولة المصرية الشائعة: “فلان معمول له عمل”، يريدون أَنَّه مسحور, والسِّحر ذكره القرآن في معرض الذمِّ ورُبِطَ بالشياطين وما تتلوه على ملك سليمان وغيره. ومن المراد به: التخييل وعمل أشياء معيَّنةٍ تؤثِّر على مخيِّلة الإنسان، فتجعله يتخيَّل وجود ما لا وجود له أو انعدام موجود أو تخيُّل الشيء بخلاف حقيقته؛ فيتخيل الحبلَ ثعبانًا.
والسحر مرتبط بالعصور التي تحكَّمَ الكهنةُ بالناس بحجَّة أنَّ لهم قدراتٍ خارقةً كالاتصال بالكواكب وادّعاء وجود روابط بين الكواكب والبشر، وزعموا أنَّ أبراجًا ينتمي إليها الناس وفقًا لتواريخ ولادتهم، وسواها من خرافات سيطروا فيها في عصور قديمة على عقول الناس واستعبدوهم، وتحالف الكهنة مع الحكام في عصور أخرى.
وحين أرسل الله تعالى محمّدًا -عليه الصلاة والسلام- جعله رحمة للعالمين، وحرَّر الناسَ من الخرافة والشعوذة والسحر، لكنَّ الثقافة الشفويّة التي سادت جزيرة العرب ومكة والمدينة بالذات، غلب عليها ثقافة أهل الكتاب وخاصة اليهود، وكانت بعض طوائفهم تمجِّد السحرَ والنظر إلى الكواكب واعتقاد ارتباطها بالناس.
والأديان -في الأصل- تأتي للإصلاح والتغيير الكبيرين، لكن بعض الثقافات تكمن وتنكمش لكنها لا تنعدم، فتبقى في أذهان الناس. فكلما ضعف الوعي الديني السليم لديهم برزت تلك الأمور وظهرت، ومنها السحر، حتى كاد يختفي لكن أهل الكتاب واليهود خاصة حاولوا إقناع العالم كلّه بعدم صحة رسالة رسول الله محمد -عليه الصلاة والسلام-، فأوحوا لأهل الكتاب: أن ما جاء محمد به هو ضرب من السحر، وأنه يفرق بين المرء وزوجه والابن وأبيه والأخ وأخيه.. بإسلام أحد الطرفين وبقاء الآخر على كفره. فخدعوا البعض بوجود السحر، وأنه ظاهرة باقية ولا تختفي بانتهاء ملك سليمان، وأنَّ كلَّ ما يدَّعى من انتهاء تلك الظاهرة مجرَّد دعوى لا أصل لها ولا صحّة.
وتلقَّف المشركون ذلك فقالوا عن رسول الله -عليه الصلاة والسلام- أنه ساحر أو شاعر أو كذّاب، وأنَّ القرآن سحر، وليعزِّزوا ذلك ويحولوه إلى مسلَّمة من المسلمات، وينزعوا صفة الوحي عن الرسول والرسالة؛ فقد ادَّعوا عدم عصمته من الناس، وأنه مثل غيره يمكن أن يُسحَرَ ويتأثَّر بالسحر، خاصةً إذا كان يهوديًّا يتقن السحرَ سَحَرَهُ. وهكذا: وُلِدت أكذوبة تأثير السحر بالرسول -عليه الصلاة والسلام-، وبذلك يستريحون منه ومن الإسلام كلِّه، فينزعون عنه صفة الرسالة والنبوة، ويتحول إلى رجل مسحور: “إن تتبعون إلا رجلًا مسحورًا”، ومن يتبع المسحور هو إنسان يُعَدُّ ناقصَ العقل أو معطِّلًا له، وأخرجوا قصَّةً رواها البخاريُّ:[1](( 5430 حدثنا إِبْرَاهِيمُ بن مُوسَى أخبرنا عِيسَى بن يُونُسَ عن هِشَامٍ عن أبيه عن عَائِشَةَ رضي الله عنها قالت سَحَرَ رَسُولَ اللَّهِ رَجُلٌ من بَنِي زُرَيْقٍ يُقَالُ له لَبِيدُ بن الْأَعْصَمِ حتى كان رسول اللَّهِ يُخَيَّلُ إليه أَنَّهُ يَفْعَلُ الشَّيْءَ وما فَعَلَهُ حتى إذا كان ذَاتَ يَوْمٍ أو ذَاتَ لَيْلَةٍ وهو عِنْدِي لَكِنَّهُ دَعَا وَدَعَا ثُمَّ قال يا عَائِشَةُ أَشَعَرْتِ أَنَّ اللَّهَ أَفْتَانِي فِيمَا اسْتَفْتَيْتُهُ فيه أَتَانِي رَجُلَانِ فَقَعَدَ أَحَدُهُمَا عِنْدَ رَأْسِي وَالْآخَرُ عِنْدَ رِجْلَيَّ فقال أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ ما وَجَعُ الرَّجُلِ فقال مَطْبُوبٌ قال من طَبَّهُ قال لَبِيدُ بن الْأَعْصَمِ قال في أَيِّ شَيْءٍ قال في مُشْطٍ وَمُشَاطَةٍ وَجُفِّ طَلْعِ نَخْلَةٍ ذَكَرٍ قال وَأَيْنَ هو قال في بِئْرِ ذَرْوَانَ فَأَتَاهَا رسول اللَّهِ في نَاسٍ من أَصْحَابِهِ فَجَاءَ فقال يا عَائِشَةُ كَأَنَّ مَاءَهَا نُقَاعَةُ الْحِنَّاءِ أو كَأَنَّ رؤوس نَخْلِهَا رؤوس الشَّيَاطِينِ قلت يا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلَا اسْتَخْرَجْتَهُ قال قد عَافَانِي الله فَكَرِهْتُ أَنْ أُثَوِّرَ على الناس فيه شَرًّا فَأَمَرَ بها فَدُفِنَتْ تَابَعَهُ أبو أُسَامَةَ وأبو ضَمْرَةَ وبن أبي الزِّنَادِ عن هِشَامٍ وقال اللَّيْثُ وبن عُيَيْنَةَ عن هِشَامٍ في مُشْطٍ وَمُشَاقَةٍ يُقَالُ الْمُشَاطَةُ ما يَخْرُجُ من الشَّعَرِ إذا مُشِطَ وَالْمُشَاقَةُ من مُشَاقَةِ الْكَتَّانِ)).
ولدى البحث الدقيق في هذه الفرية اليهودية الشركية وجذورها، وجدنا أنَّ سائر الروايات التي وردت بذكر تأثر رسول الله -عليه الصلاة والسلام- بالسحر هي روايات رواها مقاطيع لا يصحُّ الاحتجاج برواياتهم، وبعضهم عُرفوا بالتدليس كالأعمش، وهو مدلس معنعن. وإذا كان بعض رجال الحديث مثل يحيى بن سعيد القطّان الذي ذَكَر أنَّ هشامًا قد صرَّح بالسماع فذلك شذوذ عند أهل الحديث من يحيى خالف به جمعًا من الثقاة، منهم: أنس بن عياض، وعبد الملك بن جريج، وعبد الله بن نمير، وعيسى بن يونس، ووهب بن خالد، وسفيان بن عيينة، وغيرهم. وقد أخرج البخاري حديث السحر وأخرجه غيره، فقد ورد الحديث في نحو ثلاثين كتابًا أو تزيد من أمّات الكتب الحديثيّة، وتردّد حتى تحول إلى أمر مسلَّمٍ، وإذا بأمّة الإسلام تصبح مثل أمة يهود تؤمن بالسحر وتدَّعي الفئات القائلة بذلك أنَّ رسول الله -عليه الصلاة والسلام- قد سُحِرَ، كما في الحديث. وهكذا أحيا بنو إسرائيل الإيمان بالسحر ونشروه بين المسلمين، وسارع الرواة إلى تداوله عن أولئك المقاطيع والمدلسين ليشيع ويستفيض ويذكره البخاريُّ في من ذكره، فكيف حدث ذلك؟ وكيف أعيد العقل المسلم الذي حرَّره الله من ذلك كلِّه إلى الإيمان بهذا التخريف، وهو مناقضٌ لقوله تعالى: “والله يعصمك من الناس”؟!
وللحديث بقية بمشيئة الله تعالى.
[1] صحيح البخاري، ج5، ص 2174، رقم الحديث 5430.