Menu
منهجية التعامل مع التراث الإسلامي - مراجعة لكتاب من أدب الاختلاف إلى نبذ الاختلاف - أُمْنِيّة أهلِ السجود([1]) - The future of Islam in America and west - جانب من جلسات فريق باحثي الأزهر للعمل على وضع منهجية مراجعة التراث - حوار حول الربيع العربي - الإسلام والمسلمون من وجهة نظر غربية - برنامج اخترنا لمكتبتك - معالم في المنهج القرآني - ومضات فكرية

القدر وتعامل الناس معه

أ.د/ طه جابر العلواني

إنَّ الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستهديه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئآت أعمالنا.

أمَّا بعد:

نتمنى من كل مسلم ومسلمة إذا ذُكر له القدر أن يقرأ الآية الكريمة: ﴿سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم حَتَّى ذَاقُواْ بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إَلاَّ تَخْرُصُونَ * قُلْ فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (الأنعام:148-149)، ﴿وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللّهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ نَّحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ﴾ (النحل:35).

 فشياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورًا، فيحتجُّون بالقدر؛ ليسوغوا لأنفسهم تجاهل الواجبات، والوقوع في المحرمات والمنكرات؛ ولذلك كشف الله تلك الأعذار الشيطانيَّة التي يوحي بها شياطين الجن إلى شياطين الإنس؛ ليجادلوا المؤمنين دفاعًا عن ارتكاب الخبائث، وتسويغًا للتفريط بالواجبات فقال تعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمْ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَاء اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ﴾ (يس:47) فهم يحتجون بكلمات حق، للدفاع عن باطل، أو لتسويغ الباطل، والله (جل شأنه) قد علَّمنا أنَّ الحق حق، والباطل باطل، وأي تسويغ لارتكاب المحرم أو التفريط بالواجب هو مسوغ شيطاني، يطرحه الشيطان ليلبس على الناس دينهم، ويشغلهم عن آداء مهامهم وواجباتهم.

    فالاحتجاج بالقدر جعله الله (جل شأنه) وسيلة تعين الإنسان على استمرار الحياة ودفع اليأس عمن تعرض لما قد يدفعه لذلك، والانسحاق تحت الشعور بالعجز، وعدم القدرة، وما إلى ذلك مما قد ينتاب الإنسان وهو يتقلَّب في شئون وشجون الحياة، فإذا حدث للإنسان مرض أو حادث أو مصيبة فله أن يسري عن نفسه، ويباعد بينها وبين اليأس والانسحاق والهزيمة، تحت ضغط الشعور بالعجز، فيقول: ﴿قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللّهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (التوبة:51).

    ونحن في عملنا وحركتنا في الحياة لا نعرف ما الذي كتبه الله لنا أو علينا، بل نعرف أنَّه أمرنا ونهانا فنعمل بالمأمور به، ونبتعد عن المنهي عنه، ونسأل الله القبول والرحمة والمغفرة، ولا نشغل أفكارنا بالأسئلة التي يثيرها شياطين الإنس والجن كما حدث مع أولئك الذين قيل لهم أنفقوا مما رزقكم الله، وليتهربوا من واجباتهم في الإنفاق والمواساة؛ قالوا: ﴿أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَاء اللَّهُ أَطْعَمَهُ﴾، وهي كلمة حق، ولكن أريد بها باطل، فلا يستطيع مؤمن أن ينفي القدر، ولكنَّه أيضًا لا يستطيع أن يعرف الشيء قبل وقوعه، والناس يخلطون عند الحديث في هذه الأمور أو التساؤل عنها بين عوالم الأمر والإرادة والمشيئة الإلهيَّة، فيستدرجهم الشيطان إلى مواقف المشركين والكفار كما مر في الآيات التي ذكرناها.

 فعل المؤمنين أن يحذروا هذه المنزلقات، وأن يعتصموا بالنور المبين الذي جاء القرآن به، ويعلموا أنَّ الحجة البالغة لله (جل شأنه)، الذي لا يرضى لعباده الكفر، ولا المعصية، ولا الضلال، ولا الانحراف: ﴿إِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (الزمر:7)، وخلق كل شيء بقدر، ولكن الناس يبغي بعضهم على بعض؛ فتختل بعض الموازين نتيجة الانحراف عن طريق الله (جل شأنه) وهدايته.

    فلنتمسك بكتاب الله ولنعرض عن الجدل العقيم، الذي لن يؤدي إلا إلى مزيد من الاضطراب وسوء الفهم، فلله الحجة البالغة، وليس لأولئك الذين يحتجون بالقدر لتبرئة أنفسهم من آثار الممارسات الضالة، فالله (تعالى) قد أحصى كل شيء في إمام مبين، يكتب فيه ما قدَّموا وآثارهم: ﴿وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا * اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا * مَّنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً (الإسراء:13-15) .

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين، والصلاة، والسلام على أشرف المرسلين، سيدنا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم).

أمَّا بعد:

في القرآن المجيد ما يزيد عن أربعين آية كريمة في سور مختلفة، لكل منها صلة ما في الجدل الذي دار قديمًا وحديثًا بين الناس حول تسيير الإنسان وتخييره، للإجابة عن السؤال العتيد الذي طرح، ألا وهو قولهم: هل الإنسان مسيَّر أو مخيَّر؟.

وهناك من يزعم أنَّ الإنسان مسيَّر ومجبور على كل فعل أو قول أو حركة أو سكنة، وأنَّ مسيرته في الكون لا تعدو أن تكون مثل ورقة تتقاذفها الرياح يمينًا وشمالًا، ترفعها لأعلى وتخفضها لأسفل دون إرادة منها، أو تدبير، وهؤلاء من عرفوا بالجبريَّة، فهم ينفون عن الإنسان الاختيار، ويؤكدون أنَّه مجبور في كل ما يأخذ ويدع، وقد جاء هذا اللبس من سوء القراءة لآيات الكتاب الكريم، وعدم النظر في وحدة القرآن الكريم البنائيَّة، بل أخذوا آياته الكريمة كأنَّها أعضاء منفصلة، لا يتصل بعضها ببعض بأي رباط، وبالتالي فإنَّ لكل منها دلالته المستقلة، ومعناه الخاص، وهذا خطأ.

 وقبل أن نؤكد على أنَّه خطأ نود أن نقول: لا شك أنَّ هناك جانبًا جبريًّا في الممارسات الإنسانيَّة، فالإنسان في الحياة لابد له أن يتنفس ويأكل ويشرب وينام، ولا يستطيع أن يحيى بدون القيام بضروريَّاته، والوفاء باحتياجاته، هذا الجانب الجبري لا علاقة له بالتكليف، اللهم إلا أنَّ فقدان الأهليَّة أو القدرة والاستطاعة على القيام ببعض الواجبات البدنيَّة والماليَّة تسقط المسئوليَّة عن أداء المأمور به أحيانًا، وقد تسقط المسئوليَّة كذلك عن تناول المنهي عنه، في ظروف معينة.

فالتكليف من لطف الله، ارتبط بالطاقة الإنسانيَّة، والقدرة على الفعل، وعدمه، وعلى القيام بالشيء وضده ونقيضه، إلى غير ذلك، والله (تبارك وتعالى) نفى تكليف الإنسان بما لا طاقة له به: ﴿لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ .. (البقرة:286)، ﴿.. لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا (الطلاق:7) ، وكان ذلك كافيًا في نفي الجبر عن الإنسان، ومع ذلك فقد أصر البعض نتيجة اقتطاع آيات من سياقها وإعطائها معاني غير المعاني التي يساعد السياق عليها كأن يقول: لو شاء الله لما فعلت كذا، أو لما وقع لي كذا، وقد يستدل ببعض الآيات نحو: ﴿وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ .. (الإنسان:30)، ﴿مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (الحديد:22)، وقد يقتطع آخر آيات أخرى من سياقها ليعارض به الآيات التي ذكرناها مثل: ﴿مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ .. (النساء:79)، ﴿وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (الأنعام:137)، إلى غير ذلك.

وهذه من القراءات المنحرفة التي يختلط فيها الفهم، ولا يستبين المؤمن بها السبيل؛ ولذلك فنحن مطالبون بحب القرآن والإيمان به، والوقوف على معانيه، وملاحظة سياقات آياته وأعمدة سوره والنظر في المناسبات والعلاقات، والوحدة البنائيَّة للكتاب الكريم، فبذلك لن نخطئ في فهم مراداته ولن نصبح مثل أولئك الذين يرجم بعضهم بعضًا بآيات الكتاب الكريم، فللتلاوة آدابها، وأحكامها التي لابد من ملاحظتها والوقوف عندها.

إنَّ الله (تبارك وتعالى) أعطى للإنسان حريَّة التصرُّف، بحيث يستطيع أن يختار بنفسه السبيل الذي يريد السير فيه بعد أن هداه الله النجدين، وعلَّمه سبيل الهدى، وأوضح له ما يستطيع أن يعرف بمقتضاه سبل الانحراف، فلا ينبغي لمؤمن يحب الله ورسوله ويؤمن بالله وكتابه ورسله أن يتنصَّل من مسئوليَّاته، ويتنكَّر لواجباته، ويكسل عن آداء ما عليه، احتجاجًا بالقدر، بمعنى الجبر وإلغاء حريَّة الاختيار، ففي ذلك ظلم وجهل وانحراف وهدم لقاعدة المسئوليَّة التي تقوم عليها كل وسائل الاختيار وأسبابه.

اللهم أنت أحق من ذكر، وأحق من عبد، وأنصر من ابتغي، وأرأف من ملك، وأجود من سئل، وأوسع من أعطى، أنت الملك لا شريك لك، والفرد لا ند له، كل شيء هالك إلا وجهك، لن تطاع إلا بإذنك، ولن تعصى إلا بعلمك، تطاع فتشكر، وتعصى فتغفر، نسألك أن تصلي على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه، وأزواجه وذرياته، وعلى كل من آمن، إنك سميع مجيب.

أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *