الحلقة الخامسة عشر
مرجئة العصر
الجزء الثاني
أ. د. طه جابر العلواني
لو تأمل مرجئة العصر في معاني الإيمان والإسلام والإحسان وقرأوا القرأن المجيد وتدبّروا آياته لأدركوا أن هذه المفاهيم القرآنيّة ترتبط بإيمان وعمل وسلوك في الحياة؛ فمن آمن أن النار محرقة لا يتوقع منه أن يدس يده فيها، ومن آمن بالله تعالى ربًّا وبالإسلام دينًا فلا يمكن إلا أن يوقنَ جازمًا بوجود الله ووحدانيته واتصافه بكل صفات الكمال وانتفاء كل صفات النقصان عنه، ويؤمن بعالم غيبه وكل ما فيه من ملائكة وغيره وما يتصل به من كتبٍ أُنزلت ورسل أرسلت تشهد كلها أننا مبعوثون بعد الموت وأن هذا الكون منضبط بسنن وقوانين وقواعد سنّها الله وقدّرها وذلك تقدير العزيز العليم، والقدر خيره وشره محكوم بتقدير الله -جل شأنه- فهو من خلق الأرض والسماء، والإنسان قدّر له في الأرض الأقوات وسائر شؤون الحياة عليها، وأن الناس محاسبون بعد الموت على ما قدموا وأن سيضع الموازين القسط ليوم القيامة، وأن الناس سيكونون صنفين سعداء وأشقياء، ]يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (105) فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (107) وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ[ (هود:105-108)، وأن من عالم غيب الله -جل شأنه- الدار الآخرة والجنّة والنار وكلها حق جاءنا به رسول الله. وقد جاءت الآيات الكريمة تحمل الكثير من التفاصيل في هذا الشأن وفي مقدمتها سورة الإخلاص وآيات أخرى كثيرة، وأن الإيمان يقتضي العمل، وقد يقع من الإنسان عمل لا ينسجم مع الإيمان ويبطل أجر الإنسان وثوابه، ولذلك فهو في حاجة نفسه ومراقبتها والاستغفار عن الذنوب كلما وقع في شيء منها، والمؤمنون مستوون في الإيمان والتوحيد متفاضلون في الأعمال. والإيمان والإسلام مثل ظهر الشيء وبطنه فمن الصعب أن يوجد الإيمان من غير إسلام أو يوجد الإسلام من عير إيمان، ولفظ الدين واقع على الإيمان والإسلام والشرائع كلها، فليس بمنطق ولا معقول أن يدعي الإنسان الإيمان والإسلام والإحسان والأفضلية على الآخرين لمجرد أنّه ولد في بيئة مسلمة من أبوين مسلمين وحمل اسمًا إسلاميًّا؛ فللمسلم سلوكه وأخلاقه وصفاته وللمؤمن يقينه والتزامه، وللمحسن سلوكه وتصرفاته. فمَن تحقق بذلك فله أن يصف نفسه بما تحقق فيه، ومَن تنكّر لذلك فعمل سيئًا وتصرف سيئًا وسلك ما شاء من المسالك، فليس له أن يدعي أنّه أفضل من غيره وأقرب إلى الله من سواه؛ لأنه بذلك يضيف إلى سيئاته سيئة أخرى ألا وهي الافتآت على الله والكذب عليه والتعالي عما به أمر وعنه نهى، وإلا فليس لهم أن يغتصبوا شهادات الآخرين من واعظين ودعاة لهم بالإيمان ودخول الجنة، ولن ينفعهم ذلك حتى لو سايرهم أولئك الدعاة فيما يقولون. كما أن أولئك الذين يجازفون فينعتون مَن يقصّر في أداء بعض الفرائض أو الواجبات بالكفر دون استفصال ومعرفة بحقيقة الحال فإنهم يحتاجون إلى مراجعة لما يقولون به أو يرمون الناس فيه. فهل لنا أن ندعو الفريقين إلى كلمة سواء وأن يستفيدوا من التراث شيئًا في الحوار حول المسائل المختلف فيها بين الإسلاميّين والليبراليّين ومناقشتها مناقشات علميّة هادئة تُوقِف الشغبَ واللغطَ وتريح العقولَ والنفوسَ وتؤدي إلى انفتاحِ الناس بعضهم لبعض وقبول كلٍّ منهم للآخر، فإن لم يكن الوصول إلى المطلوب في هذه الحوارات فلا أقلّ من التحلي بآداب الاختلاف والالتزام بها، لئلا يشيع العنف بكل أنواعه في البلاد بين العباد.