أ.د/ طه جابر العلواني
قبل يومين كلمني أخي د/ مصطفى العلواني، ينعى إلي آخر أعمامي هو العم/ حسين ــ يرحمه الله تعالى، الذي كان بمثابة الأخ لنا نحن أبناء أخيه جابر؛ لأنَّ الوالد ــ يرحمه الله ــ كان ينظر إلى عمنا حسين على أنَّه ولده أكثر من كونه أخاه، وقد توفي العم حسين يوم الاثنين بعد أن أدى صلاة المغرب، وفتح القرآن وبدأ يقرأ، فاجأته المنية ومصحفه بيديه.
ووالدي وعمَّيَّ خلف وحسين كانوا مضرب المثل في مدينتنا الفلوجة في تآخيهم، وتعلق كل منهم بالآخرين، فما كان يحصل بينهم ما يحصل بين الإخوة عادة من تناحر أو تدابر، بل كانوا فعلًا كالجسد الواحد، فعمي حسين الذي فقدته من يومين مرض مرة فأصر الوالد ــ يرحمه الله ــ أن لا يُمَرِّض حسين ولا يسهر عليه إلا هو بنفسه، فكان يجلس عند رأسه ليل نهار، لمدة جاوزت شهرًا، يُغيِّر الكمادات من على جبهته ورأسه ويعطيه الدواء في مواعيده، ويطعمه ويسقيه بيديه، ولم يترك الوالد ذلك إلا بعد أن شفي أخوه، وأصبح قادرًا على الحركة والذهاب والمجيئ والقيام بشأن نفسه.
كنت أسأل الوالد أحيانًا ما الذي جعلك وأخويك على هذا المستوى من المودة والتآزر؟ فيقول: إنَّها وصية والدي، كنت أكبر إخواني وأخواتي حين توفي جدك فياض، فأوصاني بهم جميعًا، وصرت أشعر منذ غاب والدي عن الحياة، أنَّني أب للجميع، عليَّ أن أحمل من أعبائهم كل ما كان يحمله الوالد، إضافة إلى واجب الشقيق الأكبر. وقد عشنا في منزل واحد مع عميّ وأبنائهم سنين طوالًا، وكلما حاول أحد إقناعهم بضرورة تغيير السكن القديم واتخاذ كل منهم سكنًا لنفسه؛ كان الرفض الشديد يأتي من الوالد والعم خلف، إلى أن أصبح عدد أفراد العائلة أكثر من خمس وعشرين، ولم يعد المنزل القديم يتسع لهذا العدد الكبير، فاشترى الوالد والعم خلف قطعة أرض، وكانا يريدان أن تبنى ثلاث بيوت متلاصقة لهما ولأخيهما حسين، لكن العم حسين قد آثر أن يشتري بيتًا لا يبعد عن أرض الوالد والعم خلف إلا خطوات معدودات، وبمشقة بالغة وافق الوالد والعم خلف على ذلك، مع أنَّ بيت العم حسين يكاد يكون ملاصقًا للبيتين الذين بناهما الوالد والعم خلف.
وبقي العم خلف والوالد مع تقسيم العائلة على المنزلين في حال واحدة، لا يهم أي منهما أنَّه يبذل جهدًا أكثر من أخيه أو أقل، فالعائلة واحدة بمعنى الكلمة، يقوم على رعايتها وشئونها الوالد والعم خلف، أمَّا العم حسين فبالرغم من تفرده في ماله الذي كانت بدايته مساعدات أخويه، لكنَّه ما كان يمكن أن يمضي يوم وليلة لا يرى كل من الإخوة أخويه، ويجلسون معًا، ويسهرون ويتسامرون، ويتفقون ويختلفون.
ولا تحتفظ ذاكرتي باختلافات بين الإخوة الثلاثة إلا على مستوى الزوجات، ولكن كانت محاولاتهن تجابه بشدة الرفض من الإخوة، وبالتوكيد على أنَّ كلًا منهم مستعد أن يتخلى عن الدنيا كلها ولا يتخلى عن أخويه، إلى أن يئس السيدات من استقلال كل منهن ببيت لها ولأبنائها تكون هي السيدة المطاعة فيه، ومن الطرائف أنَّه في مرة من المرات رأت زوجة أبي أن يبنى سياج لا يرتفع أكثر من متر بين بيت الوالد وبيت العم خلف، وبعد أن بني فوجئنا بالوالد يهدم جزءًا كبيرًا من السياج؛ ليكون مروره سهلًا إلى منزل أخيه، ولا أتذكر عدد المرات التي كانت تحاول أم ياسين بناء ذلك السياج فيهدمه الوالد، أو العم، أو أسبقهما لرؤيته، وكنت أضحك وأنا أرى عمليَّة الهدم والبناء لذلك المتر من السياج، وكنت أتمثل متضاحكًا بعد أن كبرت بقول بدوي الجبل:
ليس بين العراق والشام حد *** هدم الله ما بنوا من حدود
رحم الله والديَّ وغفر لهما، وتغمد برحمته عمي الحاج خلف، وغفر لي وله، وتقبل في صالحي عباده العم حسين، وأسكنهم جميعًا فسيح جناته، إنَّه سميع مجيب:
أولئك آبائي فجئني بمثلهم *** إذا جمعتنا يا جرير المجامع.