أ.د/ طه جابر العلواني
كثير من الحكَّام خاصَّة في العراق بعد 2003 وقبل ذلك قد اتهموا باستغلال نفوذهم، واختلاس البلايين والملايين من أموال الشعب العراقي وموارده، وبعض الفضائح وصلت إلى حد الإمساك ببعض أولئك الحاكمين أو ذويهم وهم يحملون حقائب كبيرة ملأى بالأموال المهربة، ضمن ما يشحنونه من ملابس في تلك الحقائب الكبيرة، وقبل حوالي ستة أشهر ذكرت فضيحة أنَّ بعض رجال الشرطة في مطار موسكو عثروا على عدَّة حقائب، وجدوها ملأى بالدولارات، وكان عليها ختم رئاسة الجمهوريَّة العراقيَّة، أرجعتها بعض المصادر الصحفيَّة إلى عهد جمهوريَّة صدَّام، وأرجعتها مصادر أخرى إلى الجمهوريَّة التي أقامها الاحتلال، قُدِّرت تلك الحقائب بعشرين حقيبة، كانت مهملة مع الأمتعة التي فقدها أهلها ولم يحضروا للبحث عنها أو تسلُّمها، لم يُذكر رقم المبْلغ المهرَّب ولا تفاصيله، ولم تتحدث عنه وسائل الإعلام بعد حديثها في اليوم الأول، لا أدري هل كان هناك من قام بسد الحنك، أو قطع الحنك؟ لا أدري.
ولقد ذكَّرتني الواقعة برئيسين سابقين للعراق، أولهما: عبد الكريم قاسم، اتهم عبد الكريم قاسم في فترة حكمه التي استمرت أربعة سنوات ونصف بأنَّه كان مصابًا بالشيزوفرينيا (Schizophrenia) “انفصام الشخصيَّة”، كما اتهم بأنَّه كان مصابًا بجنون العظمة، أمَّا موضوع الشيزوفرينيا فلم أطَّلع على أيَّة تقارير طبيَّة تؤكد أو تنفي إصابته بذلك، أمَّا إصابته بجنون العظمة فأستطيع أن أقول، إنَّنا نجد له كلمات ومواقف يمكن أن تؤكد أنَّ هذه الصفة موجودة فيه، بنسبة أو بأخرى، فهو مثل أبي الطيِّب الذي قال عن نفسه:
تغرب لا مستعظمًا غير نفسه *** ولا قابلًا إلا لخالقه حكما
وإنِّي لمن قوم كأنَّ نفوسنا *** بها أنف أن تسكن اللحم والعظما
فعبد الكريم كان يفخر بنفسه، ولقد رأيت بخطه بيانات التشريفات التي كان يعدها بنفسه للإذاعة والتلفزيون العراقيين للحديث عن مقابلاته، فكان يكتب قابل سيادة الزعيم الأمين أو الأوحد فلانًا وفلانًا، ودامت المقابلة كذا، وفي بعض الأحيان يزيد في الألقاب ما يشاء، وفي خطبة من خطبه قال كلمته المشهورة: “إنَّني قوة منطلقة في التاريخ، يستمد الشعب القوة مني في حياتي، وبعد مماتي يستمدها من كلماتي والبيان الأول للثورة”، لكن هذا الرجل لم يسمح لنفسه أن يتقاضى من أموال الدولة العراقيَّة أكثر من مرتبه، بوصفه ضابطًا في الجيش، ولم يمنح نفسه أيَّة ترقية لرتبة أعلى قبل استيفاء كافَّة الشروط، ومنها الشرط الزمني؛ ولذلك فإنَّه لم يرقِّ نفسه إلى رتبة فريق إلا قبل قتله والثورة عليه بحوالي شهرين.
وحين كلفت مع ثلاثة من الضباط بجرد ممتلكاته في مسكنه الصغير الذي كان ينام فيه في وزارة الدفاع، وفي شقته التي كان يسكنها في منطقة البتاويين؛ لم نجد في جيب الرجل أكثر من ثلاثة دنانير وبضعة دراهم، ولم نجد له أي حساب في أي بنك من البنوك داخليًّا أو خارجيًّا، ووجدنا أنَّ ربع مُرَتَبِه كان يرسل به إلى فقراء باب الشيخ عبد القادر ــ رحمه الله ــ شهريًّا، فيذهب ربع المرتب بيدي المحاسب نفسه ليوزع ويعطى له ثلاثة أرباع المرتب. ومنع أخاه حامدًا من أن يعمل بالتجارة، ويستغل اسمه؛ محافظة على سمعته، وإن كان بعض التجَّار العراقيين لم يدَّخروا وسعًا في محاولة استغلال أقاربه، لكنَّه كان يكافح لكيلا يحدث ذلك، ذلك يعني أنَّ الرجل لم يكن يبحث عن المال، وأنَّ همَّه منحصر في إبراز وطنيَّته، وقيمته، وشرفه العسكري، وما إلى ذلك. هذا لا يعني أنَّني الآن أدافع عنه، أو أبكي على أطلال البرامكة، بل وددت أن أبيِّن أنَّ الحكَّام أنواع، فمنهم من يبتلى بجنون العظمة، مثل صاحبنا، ومنهم من يبتلى بجنون المال، والمنصب، ووو إلخ.
والشخصيَّة الثانية هي عبد السلام عارف، عبد السلام عارف ابن قبيلة من القبائل العربيَّة، فهو من الجميلة، في لواء الأنبار، كان شجاعًا مقدامًا، وهو الذي قاد وفجَّر انقلاب 14 تموز 1958، كان الرجل فيه تواضع، مواظب على صلاته، محب لبلده، فخور بعروبته، وكان شديد الحساسية من الوقوع في مال الدولة، ومنذ كان برتبة ملازم ثان إلى ساعة وفاته كان له صديق هو موضع ثقته وتقديره، يحوِّل مرتبه إليه، ويطلب منه أن ينفق عليه وعلى بيته النفقات الضروريَّة، ويدَّخر ما قد يتبقى من مرتبه لديه، وكان عبد الرحمن الإرحيم ذلك الصديق الوفي الذي بقي يقوم بهذه المهمة حتى ودَّع عبد السلام الحياة في حادث الطائرة المعروف، وبحثوا عن أمواله وأرصدته فلم يجدوا شيئًا، وأكَّد لي عبد الرحمن ــ يرحمه الله ــ أنَّ عبد السلام حين مات كان مدينًا، وتولى عبد الرحمن الإرحيم إبراء ذمَّته وسداد ديونه. يمكن القول بأنَّ عبد السلام كان متعلقًا بعروبته، ساعيًا بإخلاص إلى تحقيق الوَحْدة العربيَّة بطريقته هو، وبما يستوعبه تفكيره.
وهذا رئيس آخر من الرؤساء الذين لم يعرف عنهم الاهتمام بكنز الأموال، والاعتداء على المال العام، والتصرُّف فيه، لصالح أنفسهم وذويهم. لا شك أنَّني اعتبر انقلاب تموز مسئولًا عن إضعاف العراق، وبداية خطواته نحو التفكك والتدمير الذي يشهده الآن، لكن ما ذكرناه لا ينبغي أن يغطي على محاسن أفراد حاولوا جهدهم أن يكونوا أكثر نزاهة ومحافظة على أموال البلاد، وثروات العباد. والذكرى تنفع المؤمنين، ولعل المعنيين بتاريخ العراق الحديث يؤرخون لهؤلاء، ويبينون ما لهم وما عليهم؛ لئلا تضيع حقائق لا يجدر بالأجيال الطالعة أن تغفل عنها.
وأتمنى أن يأتي اليوم الذي تشهد شعوبنا فيه الأصحاء، الذين لا يعانون من أي نوع من أنواع الجنون، وأستطيع القول صحوا يصح حكامكم ومسئولوكم، وكيفما تكونوا يولى عليكم. وفي الوقت الذي يموت ملايين العراقيين جوعًا خارج القطر العراقي وداخله فإنَّ أموال بتروله تتناثر على السرَّاق الدوليين، أمثال السفير بريمر وجاردنر، والحقائب الضائعة في محطة مطار موسكو. والله يقول: ﴿وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ قِيَاماً وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا﴾ (النساء:5).