Menu
منهجية التعامل مع التراث الإسلامي - مراجعة لكتاب من أدب الاختلاف إلى نبذ الاختلاف - أُمْنِيّة أهلِ السجود([1]) - The future of Islam in America and west - جانب من جلسات فريق باحثي الأزهر للعمل على وضع منهجية مراجعة التراث - حوار حول الربيع العربي - الإسلام والمسلمون من وجهة نظر غربية - برنامج اخترنا لمكتبتك - معالم في المنهج القرآني - ومضات فكرية

نصرانيَّة المعرفة!!

أ.د/ طه جابر العلواني

حين تأسَّس المعهد العالمي للفكر الإسلامي في مطلع القرن الهجري الخامس عشر، وبدأنا نطرح فكرة إسلاميَّة المعرفة؛ ووُجِهنا بحملات شديدة، جادَّة وساخرة من كثير من الكتَّاب ومن ينتسبون إلى الفكر، شملت بذلك العلمانيين، وكثيرًا من الإسلاميين، وغيرهم من أصناف المتعلمين، وكان البعض يشيح عنا بوجهه، ويقول: “طيب، إذا كنتم ستقدمون إسلاميَّة المعرفة باعتبارها هدفكم الأساس، وتعملون عليها، فماذا عن نصرانيَّة المعرفة، ويهوديَّة المعرفة، وبوذيَّة المعرفة، إلى آخر القائمة؟”. وكنا نتحمَّل ونصبر، ونتَّهم أنفسنا في كثير من الأحيان بأنَّنا لم نوضح فكرتنا بالقدر الكافي، وأنَّ إسلاميَّة المعرفة يجب أن يؤصل لها كما أصَّل أهل العلوم للمعارف الشرعيَّة، حين بدأ تدوينها الرسمي عام 143 هجريًّا، فكل مجموعة من العلماء  آنذاك عملت على التأصيل لمعارفها وعلومها، وذلك بأن تبيِّن مبادئها العشرة، فتُعرِّف بالعلم، وفوائده، ومصادره، وموارده، والمعارف والعلوم التي يمكن أن يؤثر فيها، وهكذا، إضافة إلى مسائله وجزئيَّاته؛ فقلنا قد نحتاج إلى تعريف أقوامنا بإسلاميَّة المعرفة، بمثل هذه الطريقة، فنبيِّن مفهومها، وتعريفها، وخطواتها، وكيف تتم، ومنهجها، ومصادرها، ومواردها، ومدى الحاجة إليها، إلى غير ذلك.

وكان أزعج ما نسمعه ما يصدر عن بعض الإسلاميين من سخرية، فقد كتب زكي نجيب محمود وهو فيلسوف الوضعيَّة المنطقيَّة، الذي تربع على عرشها قرابة نصف قرن في الماضي: “لكِ الله يا علوم الإنسان”، كانت مقالتين متصلتين وضعهما على صفحته في جريدة الأهرام؛ وناقشته، ورددت عليه، ثم استكتبته، وسجلنا له في مكتب المعهد في القاهرة حوالي عشر حلقات على فيديو ناقش فيها قضايا الدين والمعرفة، ولما جاء إلى إسلاميَّة المعرفة خفت لهجته عما مضى، وقفز إلى جانب الحريَّة، مؤكدًا أنَّ المعرفة لا تزدهر إلا في أجواء الحريَّة، وأنَّه يخشى على المعرفة من مصادرة الحريَّة إذا ربطت بالدين، فللدين ضوابطه، وحدوده التي لا يسمح بتجاوزها،  لكن الرجل بدا متفهمًا، وواصلنا الاتصال به والحوار معه حتى توفاه الله (جل شأنه).

في الوقت نفسه وجدنا الأستاذ عمر التلمساني المرشد العام للإخوان في السبعينيَّات يكتب مقالة في مجلة المسلمون السعوديَّة بعنوان: (كلمتان لا تنزلان لي من زور، “الفكر الإسلامي”، و”إسلاميَّة المعرفة”)؛ وكلَّمنا الرجل، وقلنا له: “إنَّ من غير اللائق بمرشد، وزعيم حركة إسلاميَّة قامت على فكر تجديدي أن يقول ما قاله في هذا الصدد”؛ واعتذر الرجل بأنَّه لم يقصد المعهد ورجاله، بل قصد بعض المتنطعين في مصر، الذين يُطلقون على أنفسهم ألقابًا كهذه. وسخر أحد خطباء الإسلاميين من المؤسَّسة والفكرة، وقال: “لم يبق عندنا إلا أن نؤسِّس مؤسَّسات صرف صحي إسلامي، ومجزرة إسلاميَّة، وجمعيَّات إستهلاكيَّة إسلاميَّة، إلخ”، قالها بسخرية مُرَّة، وبقينا حتى اليوم نسمع بين الحين والآخر من يسخر من المصطلح، والمفهوم، والمؤسَّسة، ورجالها، والكاتبين فيها، إلخ.

ومع أنَّ هناك هجمات قد تعرَّضت لها الأسلمة من كثير من الفصائل الإسلاميَّة، لكن البعض بقي يثير الشبهات حولها، وحول رجالها، ومدى علاقتهم بهذا الفصيل أو ذاك من فصائل الإسلام السياسي، لكنَّ الفضل لله ثم لحكمة المؤسَّسة التي نأت بنفسها منذ لحظة التأسيس وحتى اليوم عن ممارسة أو لعب أي دور سياسي في أي موقع من المواقع، في طول العالم وعرضه.

ومع ذلك أردت الحديث عن نصرانيَّة المعرفة في الولايات المتحدة الأمريكيَّة، فأثناء رئاستي للمعهد العالمي للفكر الإسلامي؛ بلغني أنَّ هناك معهدًا في سانتياغو (Santiago)، في كاليفورنيا، شبيه بمعهدنا من حيث الأهداف، ولكن معهدنا كرَّس نفسه لخدمة المعرفة من منظور إسلامي، ولتلبية حاجات المسلمين، أمَّا ذلك المعهد فقد كرَّس نفسه لخدمة النصرانيَّة، وبالذات لمعالجة العقل المسيحي من جميع الآثار التي ترتَّبت على الحداثة وفكر الحداثة، وفي مقدمتها نظريَّة دارون، فمعهد نصرانيَّة المعرفة يطرح نظريَّة الخلق مقابل نظريَّة التطور، وبديلًا عنها.

 وقررت زيارة المعهد، ومفاتحة أهله، والاستفادة من تجاربه إذا كان فيها ما يفيد، وقصدتهم إلى هناك، بعد أن وافقوا بمشقَّة على استقبالي. وهناك أُخذت بعد وصولي سانتياغو إلى مكان منعزل، يبعد عن المدينة بحوالي خمسين ميلًا، وهناك وجدت المعهد على تلة لطيفة، بناؤه بسيط، في مساحة ممتدة، يعمل فيه خمسة وأربعون أستاذًا كلهم يحملون شهادات دكتوراه أو أكثر، وكل جهودهم تتركز على تطوير جميع العلوم المعارف التي تدرَّس في الولايات المتحدة، تطويرًا يجعلها بعيدة عن نظريَّة التطور، متصلة بنظريَّة الخلق. ومن الطريف أنَّ المعهد قد اشتمل على متحف للخلق، يصور كيف أُدخل آدم الجنة، وخلقت حواء من ضلعه، وصارت الجنة كلها مسكنًا لهما، ثم برزت الحيَّة فهمست في أذن حواء واستدرجتها لمقابلة إبليس؛ وأقنعها إبليس بضرورة الأكل من التفاحة، الشجرة المنهي عنها، وعن الأكل منها. وهكذا يستمر المتحف في عرض عمليَّة الصراع بين نظريَّة الخلق الدينيَّة ونظريَّة التطور، وفوجئت بأنَّ في كاليفورنيا وحدها آنذاك أي في عام 1993 أو 1992، ستة عشر جامعة كاملة تخضع لفلسفة وأفكار هذا المعهد، وأنَّ الأساتذة الخمس والأربعين مهمتهم تهيئة برامج تعليميَّة لتلك الجامعات، وأنَّ هناك ما يزيد عن ألف وثلاثمائة مدرسة ثانويَّة تخضع لتوجيهات هذا المعهد في برامجها كافَّة، وتصاغ البرامج انطلاقًا من نظريَّة الخلق وضد نظريَّة التطور.

جلسنا الجلسة الأولى، وحاولت أن أكون ودودًا شديد التواضع بكل ما استطعت، فوجدت رفضًا وكبرياءً واستعلاءً على كل ما عملت على طرحه من تبادل الخبرات والتجارب، كما وجدت أنَّ لذلك المعهد فروعًا في مختلف أنحاء العالم الإسلامي، وفي مقدمتها إندونيسيا، وتركيا، وباكستان، وغيرهما. قدمت لهم مجموعة من كتبنا التي كنَّا أصدرناها، وإذا برئيس المعهد العجوز يقول لي: “أنا لا أملك صلاحية لإهدائك أي كتاب، فكتبنا هذه كلها ملك المعهد، لك أن تشتري منها ما تشاء، أمَّا الإهداء فنحن لا نتعامل به، وإلا لأهديناك بعض كتبنا مقابل ما أهديته لنا”.

ولما سألتهم عن انتشارهم خارج كاليفورنيا؛ قالوا: “نحن ننتشر عن طريق ما سموه بـ(Home Schooling)”، أي التدريس المنزلي، وذكروا لي أرقامًا كثيرة في بلدان مختلفة، قالوا: “إنَّ لديهم ثلاثين ألف أسرة آنذاك في إلينوي؛ تأخذ ببرامجهم، وتعلِّم أبناءها في البيت، وفقًا لتلك البرامج”، فالولد تدرسه أسرته ذكرًا كان أو أنثى، وحين يأتي موعد الامتحان يذهب ليمتحن في أيَّة مدرسة؛ لينال الشهادة. ثم عرفت بعد ذلك أنَّ كثيرًا من المتدينيين الأمريكان لا يثقون ببرامج التربية والتعليم التي تضعها وزراة التعليم، ولفرط تدينهم فإنهم يدرسون أبناءهم وبناتهم في بيوتهم، دون أن يحرموا من الحصول على الشهادات التي يريدونها، فالأسرة تستطيع أن تقدم لابنها للمشاركة في الاختبارات، وتكتب بأنَّ ابنها قد درس كذا وكذا وكذا، وأنَّه مؤهل لآداء اختبار المتوسطة أو الثانويَّة.

لم أزر المعهد بعد ذلك، ووجدت فيهم نوعًا من عدم الرغبة بالتواصل بيننا وبينهم، ولكن أدركت أن قلق بعض الأسر والمربين على أبنائهم من التعليم العام قلق مشترك موجود في العالم كله، والناس يستجيبون له بوسائل مختلفة، والدراسات المنزليَّة أصبحت في الولايات المتحدة ظاهرة لها وعليها، يؤيدها البعض، ويعترض عليها آخرون، لكنَّها ظاهرة موجودة، تتنامى الأعداد التي تمارسها في مختلف الولايات.كان المعهد معهد نصرانيَّة المعرفة قد تأسَّس قبل معهدنا بسنين، وإمكاناته تتجاوز إمكانيَّاتنا أضعافًا مضاعفة، بل لا تقاس بإمكانات معهدنا.

فالتفتوا إلى التعليم يا رعاكم الله، فجل ما نشكوه من أزمات وانحرافات في أجيالنا الطالعة يعد التعليم مسؤولًا عنه، أصلحوا التعليم لتصلحوا أبناءكم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *