Menu
منهجية التعامل مع التراث الإسلامي - مراجعة لكتاب من أدب الاختلاف إلى نبذ الاختلاف - أُمْنِيّة أهلِ السجود([1]) - The future of Islam in America and west - جانب من جلسات فريق باحثي الأزهر للعمل على وضع منهجية مراجعة التراث - حوار حول الربيع العربي - الإسلام والمسلمون من وجهة نظر غربية - برنامج اخترنا لمكتبتك - معالم في المنهج القرآني - ومضات فكرية

المسئوليَّة (7) المسئوليَّة عن الأعمال القلبيَّة

أ.د/ طه جابر العلواني

إنَّ الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستهديه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئآت أعمالنا.

أمَّا بعد:

آن لنا يا بني أن نعرف مدى مسئوليَّة المرء عن عمل نفسه. فلنقرأ معًا:

قال التلميذ لأستاذه: لقد حدَّثتني مليًا في شأن المسئوليَّة عن فعل الغير، وعن آثار فعل الغير. وقد بسطت القول ــ مشكورًا ــ في تفصيل هذه المسئوليَّة الأساسيَّة؛ مسؤوليَّة كل امرئ عن عمل نفسه؟.

قال المربي: زادك الله يا بني حرصًا على المزيد من المعرفة، ورزقني وإياك الإخلاص في طلبها، والتوفيق إلى العمل بأحسنها.. نعم يا بني لقد طوَّفت بك كثيرًا في مناطق المسؤوليَّات غير المباشرة. فالآن أعود بك إلى مركز الدائرة؛ إلى المسؤوليَّة الأولى، التي كل ما عداها فإنَّما هو انعكاسٌ لأشعتها، وترديد لصداها.

وسوف ترى أنَّ هذه المسؤوليَّة الأولى بدورها أبعد عمقًا وأوسع نطاقًا، وأعلى ذروة، من أن تبرز حدودها في تلك الكلمة المشهورة: مسؤوليَّة كل امرئ عن عمل نفسه.. ذلك أن َّكلمة العمل، أقرب ما يفهم منها، تلك الحركات الظاهرة التي من شأنها أن تقع تحت الحس، وأن تكون في متناول السمع والبصر.. على أنَّنا حتى لو أخذنا كلمة العمل بأوسع معانيها لتنتظم الأعمال الظاهرة والباطنة، فإنَّها لا تتناول وسائل العمل نفسها؛ من القوى والملكات والمواهب، وسائر المقدرات الذاتيَّة والخارجيَّة، التي سنُسأل عنها، وعن وجوه انتفاعنا بها.. وأخيرًا، فإنَّ كلمة العمل أكثر ما تصور لنا العامل؛ إمَّا فردًا مستقلًا منعزلًا يعمل لحساب نفسه، وإمَّا فردًا يعامل فردًا. وقلَّما تصوره لنا رأسًا مدبرًا، مهيمنًا على منطقة أو مناطق من العالم، مسؤولًا عن صلاحها واستقامتها، واتجاهها قُدمًا إلى غايتها.

النظرة الأولى التي تقف بالمسؤوليَّات عند حدَ الأقوال والأعمال الظاهرة، نظرةٌ قشريَّة سطحيَّة، لا تنفذ إلى جوهر الأمور ولبها، إنَّها تفترض الإنسان آلة لا قلب لها. والنظرة الثانية: التي تنظر إلى مفردات الأعمال وآحادها لترى: هل أداها المرءُ على تمامها؟. نظرة عدديَّة؛ تختبر من المرء قوتَه الذاكرة، لا قوته المفكرة، كأنَّما تفترضه نصف آلة، أو آلة حاسبة.

والنظرة الثالثة: التي لا تعتبر من كل امرئ إلا مسئوليَّته الفرديَّة. تفتت الإنسانيَّة تفتيتًا يجعلها ذرات متناثرة لا سلطان لها على الكون، ولا هيمنة لبعضها على بعض، إنَّ الصورة التي ترسمها هذه الخطوط عن حقيقة مسؤوليَّاتنا المباشرة، صورة ناقصة مبتورة، وهي صورة تغض من قيمة الانسان المسؤول، إذ تجعله آلة أو شبه آلة، أو تجرده من منصب خلافته في الأرض، فلكي نردّ إليه اعتباره كاملًا، ينبغي أن نقيس مسؤوليَّته في أبعادها الثلاثة: عمقيًّا، وأفقيًّا، ورأسيًّا.

قال الطالب: على رسلك أيُّها المربي الحكيم.. هاتها واحدة واحدة.. ولنبدأ ببيان ما تعني من امتداد مسؤوليَّاتنا من جهة العمق.

قال المربي: أريد أن تعرف يا بني، أنَّنا لسنا مسؤولين عن أعمال جوارحنا فحسب، ولكنَّا مسؤولون كذلك عن أعمال قلوبنا.

قال الطالب: كيف نُسأل عن أعمال قلوبنا، والقلوب بيد الله، يقلِّبها كيف يشاء؟! هذا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو القدوة العظمى، في الحزم والعزم وضبط النفس، كان يقول: “اللهم هذا جَهدي فيما أملك، ولا طاقة لي فيما تملكُ ولا أملك”، يعني شؤون القلب. والقرآن نفسه يقول ﴿.. وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (الأنفال:24)

قال المربي: يا بني. إنَّ الله لا يحول بين المرء وقلبه ابتداءً: ﴿.. إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ .. (الرعد:11)، وإنَّما يحول بين المرء وقلبه؛ عقوبة له على سوء كسبه إمَّا بإعراضه عن داعي الله: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا .. (السجدة:22)، ﴿.. فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ .. (الصف:5)، وإمَّا باغماضه عن نور الله: ﴿وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (الزخرف:36). وإمَّا بمعصيته لله ﴿كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ (المطففين:14). وما أراك يا بني إلا قد التبس عليك الأمر بين أعمال القلوب، وأحوال القلوب، فالذي لا نملكه ولا نُسأل عنه هو الأحوال القلبيَّة من الحب والبغض، والفرح والحزن، والبسط والقبض وما أشبهها. أمَّا عمل القلوب فنحن نملكه ونُسأل عنه.

قال الطالب: أين نجد الشاهد على هذه المسؤوليَّة عن عمل القلوب؟.

قال المربي: نجده في كتاب الله، فهو يقول ﴿وَذَرُواْ ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ .. (الأنعام:120).
قال الطالب: وما يدرينا أنَّ معنى الباطن هنا هو عمل القلوب؟. لماذا لا يكون المقصود عمل الجوارح في السر؟.

قال المربي: إنَّها تنتظم بعمومها كلا المعنيين. ومهما يكن من أمر فإليك ما هو أوضح دلالة على مقصودنا، وذلك قول الله (تبارك وتعالى) ﴿يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ (الطارق:9)، ﴿وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ (العاديات:10)، ﴿.. وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ .. (البقرة:284). وقد دلَّت الآية بعدها على أنَّنا لا نحاسب على ما يدور في خلدنا من الخواطر غير المستقرة، التي لا كسب لنا فيها، وإنَّما نُسأل عمَّا لنا فيه كسب واختيار، ولنا عليه عزم وإصرار.

قال الطالب: مثل ماذا؟

قال المربي: الأمثلة كثيرة، والأنواع عديدة، والدرجات متفاوتة من الأساس إلى القمة، ومن العقيدة إلى الفريضة إلى النافلة.. فأول ما نُسأل عنه من عمل القلوب، الإيمان بالله: نُسأل: هل آمنا بهذا الحق الأعلى؟ ثم هل كان إيماننا به على بصيرة وعن بيِّنة، أم كان مجاراة لقومنا لما وجدنا عليه آباءنا؟. ثم هل ثبتنا على هذا الايمان بعد أن حصلناه؟ هل حرصنا على تنقية مرآة قلوبنا أولًا فأولًا من غبار الشكوك والشبهات، التي تحاول طمس نورها؟. أم نحن كلما عرضت لنا شُبهة ركنَّا إليها حتى صدئت مرآة قلوبنا، وحتى أكل الصدأُ معدنها؟.

وبعد السؤال عن الإيمان، يجيئ دور السؤال عن أمهات الفضائل النفسيَّة؛ من الصبر والحلم والتواضع والرحمة وأمثالها، وعن كبائر الآثام القلبيَّة، كالحقد والحسد والكبر والعجب، والنفاق والرياء، وتبييت نيَّة الأذى للخلق، بغير جناية جنوها، وكتمان كلمة الحق حين يدعو الداعي إليها، فإنَّ الساكت عن كلمة الحق شيطان أخرس ﴿.. وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ .. (البقرة:283). وأخيرًا يجيئ السؤال عن فواضل التضحية والإيثار، وعن نوافل الزهد والورع: هل ننظر في ديننا إلى من هو دوننا، لنرضى من أنفسنا بالدون؟ وننظر في دنيانا إلى من فوقنا فنأسف على ما فاتنا منها؟. أم هل ننظر في ديننا إلى من فوقنا فنقتدي به؟ وننظر في دنيانا إلى من دوننا فنحمد الله على فضله؟. حتى نكتب من الشاكرين الصابرين؟. قال الطالب: كتبنا الله وإياك من الشاكرين الصابرين.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين، والصلاة، والسلام على أشرف المرسلين، سيدنا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم).

أمَّا بعد:

إنَّه ما من عمل يقوم العاقل به إلا وتسبقه إرادة للفعل، وتصميم على القيام به، وإعداد لذلك، والمصطلح الشرعي المعبر عن تلك الإرادة والتصميم هو النيَّة، فالنيَّة هي التي لا يمكن القيام بالعمل من دونها، ولا يعتد بالعمل إلا إذا اقترن بها؛ ولذلك قال (صلوات الله وسلامه عليه): “إنَّما الأعمالُ بالنِّيَّاتِ وإنَّما لكلِّ امرئٍ ما نوى، فمَن كانت هجرتُه إلى اللهِ ورسولِه، فهِجرتُه إلى اللهِ ورسولِه، ومَن كانت هجرتُه إلى دنيا يُصيبُها، أو امرأةٍ ينكِحُها، فهجرتُه إلى ما هاجرَ إليهِ”، ولا يفقد الإنسان النيَّة إلا في حالات الجنون، والخطأ، ومرض القلب؛ ولذلك كان للقلوب أعمالها، وللجوارح حركاتها وتصرفاتها.

ويغلب أن تربط الأعمال في قيمتها وحسنها وقبحها ومراد الشارع لها من عدمه بالنيَّة والقصد، فإذا فُقِد القصد والنيَّة قد يَفقد العمل قيمته، وقد فصَّل حديث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لنا ذلك، “فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله”، يقبل الله منه هجرته، وعبادته، ويستجيب لدعوته، ويجزه الجنة، أمَّا من عمل كل أنواع البر، ولم تصح نيَّته وإرادته وعزمه على جعل ذلك لوجه الله (سبحانه وتعالى) فإنَّ عمله يفقد قيمته، وآثاره، وقد ينقلب إلى وبال على صاحبه.

اللهم اجعل أعمالنا كلها صالحة، ولوجهك الكريم خالصة، ولا تجعل للناس منها شيئًا، ولا للشيطان منها نصيبًا، وتقبلها ربنا بقبول حسن، ونسأل الله (سبحانه وتعالى) أن يرزقنا حسن النوايا وصلاحها، وحسن الأعمال واستقامتها، وأن يبارك لنا ولكم جميعًا في صلاح الأعمال، وصدق النوايا، إنَّه سميع مجيب.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *