أ.د/ طه جابر العلوانى.
إنَّ العالم اليوم قد اتجه نحو التكتلات الكبرى؛ فهناك ما يشبه الصحوة العالميَّة التي دفعت إليها ظروف العالم المختلفة؛ بحيث أصبح العالم لا يستطيع أن يتصور وجود دولة صغيرة تقوم على عدد محدود من السكان؛ مليون أو خمسة أو عشرة أو عشرين؛ فدول العالم اليوم لا ينبغي أن يقل سكانها عن مائة مليون فما فوق؛ لكي تكون قادرة على الوفاء بشروط الدولة المعاصرة، ولابد أن تكون مساحتها متسعة شاملة لموارد كثيرة يمكن أن تتكامل في ذلك المحيط الجغرافي الواسع؛ لكي تلبي احتياجات مواطني تلك الدولة، ولابد أن يكون لها موانئ جويَّة، وبريَّة، وبحريَّة قادرة على احتمال حركة الاتصال، والمواصلات الدوليَّة المعاصرة. ولابد أن يكون لها قدرة على أن تعيش في مستوى من الرفاهية يليق بكرامة الإنسان، ويكون لها في مخزون أرضها ما يكفي لعيش أبنائها.
وما يمكِّنها من تبادل الطيبات والمنافع مع البلدان الأخرى، وأن تكون نظمها قادرة على أن توجد ألفة بين مواطنيها بحيث يتمكَّن الجميع من أن يعطوا كل ما لديهم من طاقات، وإمكانات، ويحصلوا على كل ما يليق من احتياجات بكرامتهم دون بأس، أو حرج؛ ولذلك نجد أمريكا أقامت اتحادها على هذا النوع من التصور، وذلك النوع من التكامل بين ولاياتها التي جاوزت الخمسين. ولم تعد اليوم أي ولاية تستطيع أن تشعر بالاستغناء عن الولايات الأخرى. فولايات معنيَّة بالإنتاج الزراعي الذي كان يؤدي إلى فوائض في القمح، والذرة يتبرَّع الأمريكان باليسير منها لشعوب تحتاجها تحت بنود مساعدات، أو مقايضات، وربما ألقوا بعض الفوائض في المحيطات طعامًا للأحياء التي تعيش فيها.
وقد أوجدوا تلك العلاقة الوثيقة، وعززوا اتحادهم بشبكات عملاقة بالمواصلات، والاتصالات التي جعلت مواطني كل ولاية من تلك الولايات العديدة لا يشعرون بغربة حين ينتقلون من ولاية إلى أخرى. وتنظم الدولة في سائر المجالات من الأمن، والصناعة، والتجارة دون تدخل كبير، بحيث تصبح مهمتها تيسير ذلك الاتحاد، وتعزيزه. ونهجت الجماعة الأوروبيَّة نهجها، وإذا كانت أمريكا استطاعت أن توحِّد لغتها، وثقافتها، وتجعل من الإنجليزيَّة اللغة الأولى لاتحادها فإنَّ الجامعة الأولى لم تبذل جهدًا يذكر في هذا السبيل، ومازال البرلمان الأوروبي يجمع الأوربيون فيه بخمس وعشرين لغة، دون أن يؤثر ذلك في اتجاهات توحيد أوروبا.
والغريب أنَّ الاتجاه نحو توحيد أوروبا بدأ في عقول الأوروبيين عشية انتهاء الحرب العالميَّة الثانية التي عانت أوربا كلها من ويلاتها، واكتوت بنارها، والصراع في تلك الحرب أدى إلى خسارة شعوبها، وخسرت أوروبا الملايين من أبنائها، كما لحقت بعض الخسائر ببعض دول العالم الأخرى مثل أمريكا، واليابان، فتحديات الحرب ساعدت على تغذية اتجاهات السلام، والتصميم على التخلُّص من الحروب .
إنَّ العالم الإسلامي اليوم أحوج ما يكون إلى أن يذكِّر نفسه ببعض هذه الحقائق، وأن يعلم قواده بأنَّه لم يعد هناك مجال لعيش، وحماية، وتأمين دول صغرى بأي مجال من المجالات، وأنَّه لا حل أمامها إلا أن تجمع كلمتها، وتعمل على تنقية ثقافتها من عوامل الانفصال، والتطرف، والتعصُّب، وفي مقدمتها الطائفيَّة السياسيَّة، وتبدأ في بناء ثقافة الألفة، والتضامن، والاتحاد فيما بينها لتجد أي صيغة تحقق الحدود الدنيا من التضامن والتكافل واتجاهات التوحيد فيما بينها، فلم يعد العالم في وضع يستطيع أن يستوعب فيه الأفكار Mini)) دولة أو الدولة (transistor).
واتجاهات العالم اليوم للقضاء على هذا النوع من الكيانات، ولن تستطيع الكيانات الصغرى أن تقاوم الظروف، والتحديات بمفردها، ولكن أكثر الناس لا يعلمون. ومن المؤسف أنَّ هذه الرياح وهي تجتاح العالم كله اليوم لم تزد المسلمين إلا تشبثًا بالفرقة، والنزاعات الانفصاليَّة على مختلف العناوين الطائفيَّة، والعنصريَّة، والمذهبيَّة وما إليها.
رب اغفر لقومي فإنَّهم لا يعلمون .