أ.د/ طه جابر العلوانى.
من مصائب الطائفيَّة السياسيَّة: حين استولى حزب البعث بقيادة ‹عبد الرزاق النايف›، و‹إبراهيم الداوود›، و‹أحمد حسن البكر›، و‹صدام حسين› على السلطة في العراق، ونفوا ‹عبد الرحمن عارف› رئيس الجمهوريَّة آنذاك إلى تركيا تظاهر البعثيُّون بأنَّهم من الطائفة (السنيَّة) مع أنَّ مؤسِّس (حزب البعث)، وكثيرًا من قياداته؛ كانوا من الشيعة؛ لكن ‹صدام حسين›، و‹أحمد حسن البكر›؛ أرادا أن يضم الحزب إلى المنتسبين إلى (الطائفة السنيَّة) من أبناء العراق، ويستقطبهم حول حزب البعث. في الوقت نفسه كان (الحزب الشيوعي) العراقي ينتشر في جنوب العراق؛ حيث الأكثريَّة الشيعيَّة، ويحاول أن يتملق الطائفة، ويلغي الفروق، وما أكثرها، بينه، وبين الطائفة الشيعيَّة؛ ليستقطب الشيعة، ويجعل منهم أعوانًا، وأنصارًا له. والغريب أنَّ الحزبين كليهما يؤمنان بالماركسيَّة اللينينيَّة؛ لكن حزب البعث يؤمن بالماركسيَّة اللينينيَّة بتطبيق عربي، والحزب الشيوعي يؤمن بالماركسيَّة في إطار أممي؛ وكلاهما يتنكر للدين. فحزب البعث كان يرى كما نص في دستوره الأول: إنَّ الإرث، والهبة كسب غير مشروع، ويؤمن بإلغاء الفوارق بين الرجال، والنساء في قضايا المواريث. ويرى النبوة، والرسالة مجرد ثوريَّة عربيَّة؛ بحيث كان يرى برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ثائرًا عربيًا عبقريًا وقائدًا قوميًا، وإذا أطلق عليه كلمة الرسول العربي؛ فيعتبر أنَّ رسالته هي رسالة قوميَّة؛ لإنهاض العرب، وإخراجهم من طور القبليَّة، وتحويلهم إلي أمَّة؛ ولذلك وجد حزب البعث بعد أن استولى على السلطة عداءً، ومعارضة من كثير من مكونات الشعب العراقي من أكراد، وسنَّة، وشيعة، وتركمان، وغيرهم؛ بل لقد كانت أول ضحاياه قيادات سنيَّة؛ فأول عالم من علماء الدين قتل على يديه الشيخ الشهيد ‹عبد العزيز البدري› -يرحمه الله-، وأول من شردوا؛ هم المعارضون من السنَّة، وفي مقدمتهم كاتب هذه السطور، وحين قام تجمع عراقي بالدعوة إلى الانقلاب ضد نظام البعث؛ جاءت الطائفيَّة السياسيَّة بأفكار عجيبة؛ لخلافة (حزب البعث) من تلك الأفكار: أن يكون هناك اقتسام للسلطة، ومحاصصة في كل شىء. وبدأت الطائفيَّة السياسيَّة تغري بعض المشاركين بذلك التجمُّع؛ بتقديم تصورات عن نسبة السكان، وكيف تكون المحاصصة بينهم فتقدم المشاركون بذلك التجمع بتصور قائم على: إن الشيعة في العراق يبلغ عددهم 85 ٪، وأنَّه يجب أن يكون نصيبهم في السلطة وفقًا لهذه النسبة.
تجاهل قادة الطائفيَّة السياسيَّة آنذاك أنَّ الأكراد جميعًا من السنَّة عدا قبيلة واحدة هي: (الأكراد الفيلية)، وحين قيل لهم في هذه الحالة: لا تحتاجون إلى الفئآت الأخرى ما داموا لا يشكلون إلا نسبة ضئيلة من السكان؛ فمن العدل أن تتسلموا زمام السلطة كاملًا في البلاد؛ قالوا: لا بقطع النظر عن إيماننا بهذا العدد الذي لا يعتمد على إحصاء، ولا شىء يؤكد هذه النسبة قالوا: نقبل أن تقسم بعض المؤسسات، وحصص البترول، وما إلى ذلك على ثلاث، ولما جاء دور بحث المؤسسة العسكريَّة، أو الجيش، والقوات المسلحة. كان الجيش آنذاك يتألف من ست فرق، فقالوا : يجب أن تكون هناك: فرقتان من السنَّة، وفرقتان للشيعة، وفرقتان للأكراد. فتصور إلى أي مدى قارئي العزيز؛ تعمي الطائفيَّة السياسيَّة عيون أهلها، وتصم أذانهم، وتختم على قلوبهم؛ فأي جيش هذا الذي يمكن أن يتألف بهذه الطريقة؟، وينتظر منه أن يحمي البلاد، والعباد، وإذا فعل مثل ذلك بالشرطة، وبقيَّة الوظائف؛ فأي معني؟، وأي قيمة لوحدة القطر؟، أو الإقليم الذي يبتلى بهذه الطائفيَّة السياسيَّة.
إنَّ مصائب العراق اليوم: الفساد المنتشر فيه، والمعضلات التي تترك الحليم حيران عائدة إلى: انتشار هذا النوع من الطائفيَّة السياسيَّة، وما لم يتخلص العراقيُّون منها، وينبذوها؛ فلا نجاة لهم لا في الحاضر، ولا في المستقبل، ولن يبقَ لهم من العراق إلا اسمه؛ الذي لن تتردد الطائفيَّة السياسيَّة بطرحه للمحاصصة؛ كذلك إنَّ هذا النوع من الطائفيَّة البغيضة يهدد اليوم سوريا، ولبنان، ومنطقة الخليج، والباكستان، وإيران، وتركيا، وغيرها من أقطار (العالم الإسلامي)، ولعل بشاعتها، وتأثيراتها السلبيَّة أصبحت ماثلة؛ لا للأقطار التي ابتليت بها فحسب، ولكن لسائر الأقطار المرشحة لذلك، وأقطار سائر المسلمين مرشحة لذلك، والعياذ بالله. من هنا تصبح الطائفيَّة السياسيَّة؛ أفتك الأمراض التي ينبغي أن تتداعى الحماة بكل فصائلها؛ لمحاصرتها، واتخاذ ما يلزم؛ للتخفيف من آثارها السلبيَّة الخطيرة، وما أكثرها. وما تزال بأيدي الأمَّة وسائل كثيرة يمكن أن تحقق لها ذلك؛ إذا اعتصمت بالله، والتزمت (كتابه الكريم)، وهدي الرسول العظيم (صلى الله عليه وآله وسلم) ﴿.. قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ (المائدة:15-16).
ومن آخر أخبار الطائفيَّة السياسيَّة في العراق إعلان السيد مقتدى الصدر عن اعتزاله النشاط السياسي، وهي عمليَّة جرت بعد مفاوضات مضنية بين قيادات حزب الدعوة الحاكم في العراق، بقيادة نوري الذي اختار أن يلقب “بالمالكي” ومقتدى الصدر؛ لاقتسام “التراث الصدري” بين حزب الدعوة والسيد مقتدى الصدر، فالنشاط الحوزوي للسيد الصدر والقيادة السياسية لنوري وإبراهيم الجعفري، وبقية قادة حزب الدعوة. والغريب أن يتم ذلك في وقت تستباح فيه المدن السنِّيَّة. فهل تستطيع الطائفيَّة السياسيَّة تحقيق أي هدف غير أهدافها الضيِّقة؟!!