Menu
منهجية التعامل مع التراث الإسلامي - مراجعة لكتاب من أدب الاختلاف إلى نبذ الاختلاف - أُمْنِيّة أهلِ السجود([1]) - The future of Islam in America and west - جانب من جلسات فريق باحثي الأزهر للعمل على وضع منهجية مراجعة التراث - حوار حول الربيع العربي - الإسلام والمسلمون من وجهة نظر غربية - برنامج اخترنا لمكتبتك - معالم في المنهج القرآني - ومضات فكرية

المسئوليَّة (6) المسئوليَّة التضامنيَّة في الإسلام

أ.د/ طه جابر العلواني

إنَّ الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستهديه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئآت أعمالنا.

أمَّا بعد:

قال المربي لتلميذه: لعلي أتعبتك معي يابني، بهذه الرحلة الشاقة التصاعديَّة؟. لقد أردت أن تطَّلع معي على مدى التبعات والمسئوليَّات التي يحملها المرءُ من جرَّاء فعل غيره، فوق مسئوليَّته عن عمله المباشر.

قال الطالب: لست من عناء البحث أُشفق على نفسي، فإنَّ حب الاطلاع يغريني به، ولكنِّي أشفق على نفسي وعلى الناس من أن نعجز عن إيفاء المسئوليَّات حقها. فلقد سرت بنا حتى الآن مراحل أربعًا، حمَّلتنا فيها من أعمال الغير تبعات أربعًا، ما من تبعة إلا وهي أعظم من سابقتها.

قال المربي: ما عهدتك يابني هكذا هلوعًا ضجرًا متبرمًا!. ألم تعترف لي في كل خطوة خطوناها أنَّها سديدة مستقيمة؟. وفي كل قضية قضيناها أنَّها برة عادلة؟.

ثم ما بالك تسميها شؤون غيرنا، وهي في أساسها ومنبعها من شؤون أنفسنا؟. بل إنَّها من أيسر هذه الشؤون، لمن عرف حقيقة مطالبها، ذلك أنَّها ــ في غالب الأمر ــ لا تتطلب منا إلا موقفًا سلبيًّا، ليس فيه بذل نفس ولا مال ولا تضحية فيه بجهد ولا بوقت. إن هو إلا التحفظ والتصون، والإباء والكف والامتناع.

وإليك البيان:

لقد قلت لك أول الأمر: إنَّنا مسؤولون عن فعل غيرنا إذا كان قد فعلهُ صُدورا عن أمرنا، فلكي تبرأَ من هذه المسؤوليَّة، ما عليك ــ إن كنت ذا سلطان ــ إلا أن تمتنع عن أمر مرؤوسيك بشيء فيه إثم أو ظلم، وأن تكف عن استعبادهم في جلب حظ لنفسك، وعن استخدامهم في إيصال أذى لغيرك.

وقلت لك ثانيًا: إنَّنا محاسبون على فعل غيرنا، إذا كان قد فعله إقتناعًا برأينا، واتباعًا لإرشادنا، فما عليك ــ إن كنت ذا قلم أو لسان ــ إلا أن تصون قلمك ولسانك عن ترويج الباطل، وتزيين الإثم، وتحريك الفتنة، وفتح باب السوء والفحشاء.

ثم قلت لك: إنَّنا مجزيُّون عن فعل غيرنا، إذا كان قد فعله إقتداءًا بسيرتنا، واستنانًا بسنتنا ، فما عليك ــ إن كنت ممن يُقتدى به ــ إلا أن تجتنب كل عمل يتخذك الناس به قدوة في الباطل، وإمامًا في الضلالة.

وأخيرًا قلت لك: إنَّنا مؤاخذون بذنوب غيرنا، إذا أقررناها إقرارًا صامتًا، بالإغضاء عنها والسكوت عليها.. وهذه هي الحالة الوحيدة التي يتشعب علاجها، فيكون إيجابيًّا تارة، وسلبيًّا تارة أخرى. كلٌ على قدر همته وعزيمته، وعلى قدر ما أُوتي من وسيلة، لتحقيق أمانيه وإنفاذ عزائمه، ولقد ضربت لك المثل بركَّاب السفينة الذين اقتسموا طبقاتها. فإن كنت ممن هم في أعلى السفينة فإنَّ مسؤوليَّتك خطيرة جسيمة بإزاء أهل الطبقات الدنيا الذين يحاولون أن يخرقوا قعر السفينة بترويج الشكوك والشبهات، وإثارة الغرائز والشهوات. فإن لم تأخذ على أيديهم توًا، في شدة وحزم، غرقت السفينة كلها، وكنت أنت من المغرقين.

قال الطالب: الحمد لله الذي عافاني من هذه المسؤوليَّات العظمى.

قال المربي: أما إن كنت من عامَّة الركَّاب، فما عليك إلا أن تبذل جهدك في النصيحة، وتبالغ في الوصية، فإمَّا أن يزول المنكر من أمامك، وإمَّا أن تزول أنت من أمامه مفارقًا لأهله، مهاجرًا إلى ربك، وليسعك بيتك، وأمسك عليك لسانك، وابك على خطيئتك.

قال الطالب: إنَّها أيضًا لكبيرةً إلا على الخاشعين. والآن، أيُّها المربي القدير، أليست هذه المرحلة هي خاتمة المطاف بنا، حول هذه المسئوليَّات الإضافيَّة؟.

قال المربي: كلا. بل بقيت أمامنا مرحلة أخرى أعجب إليك وأغرب، مرحلةٌ نجد فيها أنفسنا ملزمين أن نشاطر المخطئ نتائج خطئه، وأن نتحمل مع العاثر تبعات زلته.

قال الطالب: أتقول مسئوليَّة المخطئ؟!. هل تعني حقًا ما تقول؟! أليس المخطئُ قد وضعت عنه المسئوليَّة بنص القرآن الحكيم﴿.. وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ..﴾ (الأحزاب:5). فأي تبعة تبقى عليه بعد ذلك حتى تشاركه فيها؟!.

قال المربي: يابني، إنَّ الله إنَّما وضع عن المخطئين مسئوليَّاتهم الأدبيَّة والجنائيَّة. أما المسئوليَّة الماديَّة الاجتماعيَّة فإنَّها باقية بنص القرآن الحكيم. ألم تقرأ قول الله تعالى﴿.. وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَئًا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ ..﴾ (النساء:92)؟. ألا تعرف أنَّ السنَّة المطهرة علمتنا كذلك أنَّ الخطأ والعمد في أموال الناس ودمائهم سواء؟. ألا تعلم أنَّ علماء الأمَّة مجمعون على أنَّ من رمى بسهمه صيدًا فطاش سهمه فأصاب إنسانًا أو حيوانًا أو مالاً ما، لم تذهب هذه الضحايا هدرًا، بل وجب تعويض ما حدث من تلف وإزالة ما ترتب من ضرر؟. ترى من ذا الذي يحمل هذا الغرم؟. أيحمله هذا المخطئ؟.

إنَّ الاسلام لأرحم من أن يترك هذا البائس المسكين يحمل وحده غرامة نزلت به لم يصنع هو سببها باختياره. أين إذًا تلك القلوب الرحيمة التي أمرها أن تحيطه بعطفها؟ وأين تلك السواعد القويَّة التي جندها لتُقيل عثرته؟!!. أين الجماعة التي جعلها الله كالجسد الواحد؛ إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء؟! هكذا قضى الاسلام أن دية الخطأ لا يحملها المخطئُ وحده، بل تحملها معه طائفة ممن حوله، يسهم فيها معهم كواحد منهم. تحملها معه عاقلته؛ عصبته وقرابته، أو أهل ديوانه. فإن لم يجد هؤلاء ما يحملون، حملتها عنه الدولة؛ كما تحمل عن الغارمين غرمهم وتؤدي عن المدينين ديونهم.

قال الطالب: ألست ترى معي أنَّ للقضاء والقدر نصيبًا كبيرًا في جناية الخطأ؟. فهل نُسأل هكذا عن فعل القدر؟.

قال المربي: يا بني. لا تكن كالذين إذا قيل لهم: أنفقوا مما رزقكم الله، قالوا: ﴿.. أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَاء اللَّهُ أَطْعَمَهُ ..(يس:47)، نعم يابني، نُسأل عن فعل القدر. لا نَسأل عنه: لماذا نزل؟ ولكنَّه إذا نزل، نُسأل أن نخفف وقعه ونلطف أثره، فإنَّه من أجل هذا نزل، نزل ليثير عزائمنا ويختبر جهودنا، ويتقاضى جِهَادنا.. نعم يابني، إنَّنا مسئولون ماديًا وأدبيًا عن كل ما تجري به المقادير حولنا؛ نُسأل عن جوع الجائع، فنطعمه ونغذوه، وعن عري العاري فنستره ونكسوه، وعن جرح الجريح، فنأسوه، وعن الفقير فنغنيه، وعن تشرد ابن السبيل فنؤويه، وعن جهل الجاهل وضلال الضال، فنعلمه ونهديه.. يابني، إنَّ الأمَّة التي ينطوي كل فرد فيها على نفسه، ولا يسأل فيها جار عن جاره، والتي يُترَك فيها هؤلاء العاثرون، فريسة لبؤسهم ويأسهم، ليست هي الأمَّة التي قال فيها الله تعالى ﴿.. بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ .. (التوبة:71)، أرأيت يا بني إلى أي مدى بلغت مسئوليَّاتنا؟. إنَّها ــ في هذه المرحلة الأخيرة ــ ليست مسئوليَّة أدبيَّة عن ذنوب الناس وآثامهم، ولكنَّها مسئوليَّة ماديَّة عن آلامهم وآمالهم.

تلك هي المسئوليَّة التضامنيَّة في الإسلام، لا أقوالًا عائمة، ولكن حقائق ملموسة، مفصَّلة معيَّنة.. هل رأيت مثل هذا في شريعة غير شريعة الإسلام؟.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين، والصلاة، والسلام على أشرف المرسلين، سيدنا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم).

أمَّا بعد:

هكذا عرضنا لقضايا المسئوليَّة الإنسانيَّة أمام الله (جل شأنه) في الدارين، وكيفيَّة بناء الشعور بها، وجعلها الأساس الذي يقام عليه بناء الأخلاق والتصرفات والسلوك الإنساني، بحيث يوجد بمقتضى ذلك المجتمع المسلم، المسؤول المتضامن المتكافل، الذي يضرب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) له المثل في الجسد الواحد: “مثلُ المؤمنين في توادِّهم وتراحُمِهم وتعاطُفِهم، مَثلُ الجسدِ. إذا اشتكَى منه عضوٌ، تداعَى له سائرُ الجسدِ بالسَّهرِ والحُمَّى”، ذلك هو المجتمع المسلم، الذي يستطيع الإنسان فيه أن يستشعر عناية الله (جل شأنه) بذلك المجتمع وبكل ما فيه، ويستطيع أن يتنسَّم رياح السعادة في الدنيا، القائمة على الحياة الطيبة، ويستنشق فيه رياح الجنة التي ينتظرها.

وحين يرى الإنسان اليوم التفكك الحادث في المجتمعات المسلمة، يستطيع أن يرى بُعد الشقة والمسافة بين مجتمعاتنا وبين هذا القرآن الذي جعله الله نورًا، وأنزله ليخرجنا به من الظلمات إلى النور؛ لذلك فإنَّ الذين يمارسون الدعوة ويؤمون المساجد، ويعلِّمون الأجيال دروس الدين، والثقافة الإسلاميَّة في المدارس والمعاهد، هؤلاء كلهم مسئولون أمام الله عن غياب الإحساس بالمسئوليَّة، الذي أدى إلى تفكك وتفسخ كثير من مجتمعاتنا المعاصرة.

إنَّ المسئوليَّة وتعليم الأجيال أهميَّتها وفوائدها، وكيفيَّة بنائها في النفس والمجتمع، هذه المهمة هي أهم المهمات وأكثرها عدلًا، وأشدها ضرورة لأمم اليوم، وإنَّنا بحاجة لكثير من البرامج التربويَّة والتدريبيَّة التي تعيد لمجتمعاتنا وأسرنا ونظم حياتنا فهم حقيقة المسئوليَّة، والإحساس بها، وتعلم آدائها.

اللهم أنت أحق من ذُكر، وأحق من عُبد، وأرأف من مَلك، وأجود من سُئل، وأوسع من أعطى، أنت الملك لا شريك لك، والفرد لا ندَّ لك، كل شيء هالك إلا وجهك، لن تطاع إلا بإذنك، ولن تعصى إلا بعلمك، تطاع فتشكر، وتعصى فتغفر، أقرب شهيد، وأدنى حفيظ، حلت دون النفوس، وأخذت بالنواصي، ونسخت الآجال، وكتبت الآثار، القلوب لك مفضية، والسر عندك علانية، نشهد أن الحلال ما أحللت، وأنَّ الحرام ما حرَّمت، وأنَّ العباد عبادك، والخلق خلقك، والأمر أمرك، وأنت الله الرؤوف الرحيم.

 اللهم هيئ لنا ولأمَّة محمد كلها أمر رشد، يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، وتعلو فيه كلمتك، يؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر، اللهم لا تدع لنا ذنبًا إلا غفرته ولا عيبًا إلا سترته، ولا بلاء إلا رفعته، ولا فسادًا إلا أصلحته، ولا ضالًا إلا هديته، ولا ظالمًا إلا قسمته، ولا ميتًا إلا رحمته، ولا مريضًا إلا شفيته، ولا حاجة إلا قضيتها يا خير مأمول، ويا أكرم مسئول يارب العالمين، وصلي الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *