Menu
منهجية التعامل مع التراث الإسلامي - مراجعة لكتاب من أدب الاختلاف إلى نبذ الاختلاف - أُمْنِيّة أهلِ السجود([1]) - The future of Islam in America and west - جانب من جلسات فريق باحثي الأزهر للعمل على وضع منهجية مراجعة التراث - حوار حول الربيع العربي - الإسلام والمسلمون من وجهة نظر غربية - برنامج اخترنا لمكتبتك - معالم في المنهج القرآني - ومضات فكرية

أموات يُعَادُون إلى الحياة

أ.د/ طه جابر العلواني

صدمة الموت: تعتبر من أقوى الصدمات التي يواجهها البشر في حياتهم، فهي صدمة خطيرة تهز كل ما في الإنسان من مشاعر وعواطف وآراء، وتضعه وجهًا لوجه أمام عجزه وبشريَّته، فولدا آدم حين قتل أحدهما الآخر؛ صدم القاتل وهو يرى مظاهر الموت في جثة أخيه، بحيث وجد نفسه في حاجة إلى أن يتعلم من غراب كيف يواري سوءة أخيه، فالصدمة العنيفة شلَّت تفكيره، وأسلمته إلى الحيرة.

        وحين توفي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كانت صدمة المسلمين عنيفة جدًا، حتى إنَّ رجل بوزن عمر ــ رضي الله عنه ــ وعقليَّته هزته الصدمة، وجعلته يهدد من يقول بالوفاة بدون رجعة إلا في موعد الحشر بالقتل، وأخذ يستعيد ثقافته القرآنيَّة ليجد جوابًا؛ فحضره جواب ذهاب موسى إلى ميقات ربه ورجعته، فقال بذلك، ولم يصحُ من تلك الصدمة إلا بعد أن فاجأه أبو بكر ــ رضي الله عنه ــ بالحق الأبلج: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ (آل عمران:144) وآنذاك عاد عمر إلى ذاكرته القرآنيَّة ليدرك أنَّ هذه اللحظة قد مهَّد القرآن لها أي تمهيد، حين قال: ﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ (الزمر:30)، أمَّا ثبات أبي بكر فقد ينسب إلى توقعه ذلك منذ نزول سورة النصر.

 ويمكن أن نجمع مجلدات عن صدمات الموت، وكيفيَّة استقبال الناس والشعوب لها، ومصر تعرف حالات لوفاة فنَّانين وفنَّانات وكيف واجهها بعض الضعفاء بالانتحار، فهناك من انتحرت بتشييع جنازة فريد الأطرش، وأخرى بتشييع جنازة عبد الحليم، وفي تشييع جنازة أم كلثوم، وآخرين.

        ولقد شهدت حين كنت في العراق كيف استقبل الناس مقتل الأسرة المالكة: الملك فيصل الثاني والأمير عبد الإله ولي العهد، ونساء الأسرة، ومن في البيت، ومن كان يعيش معهما، وكيف امتلأت بغداد بشائعات تقوم بعضها على رؤى مناميَّة، وبعضها على ما ادعاه الناس من مشاهدات لفيصل الثاني الذي ادعى البعض أنَّهم كانوا يشاهدونه حيًّا في بعض مناطق بغداد. والرجل قد أصيب وتوفي بعد إصابته بساعات ودفن. وهناك منامات نسبت إلى الملكة عالية والدة فيصل بأنَّها شوهدت وهي تلقي بحجارة من نار على بيوت العراق والعراقيين دون تمييز وهي تنادي: سأحرق قلوبكم كما أحرقتم قلبي بقتل فيصل.

ثم أتذكر يوم قتل عبد الكريم قاسم، في العاشر من فبراير 1963، وكيف امتلأت العراق بالشائعات بأنَّ الرجل لم يقتل، وأنَّه حي، وأنَّه شوهد في مزارات وعتبات آل البيت، في كربلاء والنجف، وبعض محبيه من السنَّة ربما ذكروا رؤيتهم له في جامع الإمام أبي حنيفة يصلي الفجر أو العشاء أو غيرهما، وقد حاولت فئآت كثيرة معرفة قبره ونبشه، فاضطرت الحكومة البعثيَّة أن تربط بقايا الجثة بقضيب من قضبان السكة الحديدية وتلقيه في نهر دجلة؛ لئلا يستغل ضدها من محبيه بأي شكل من الأشكال، وبقيت الشائعات تتردد لثلاثة أشهر أو أربعة حول حياته، ومن يشاهدونه وما إلى ذلك.

فالذاكرة الشعبيَّة التي ترتسم بها صور الأبطال أو القادة يصعب عليها التصديق بغيابهم ورحيلهم الأبدي؛ فتبتكر لهم ما تشاء من أساطير لإضعاف تأثير الصدمة بوفاتهم، حتى يتم امتصاصها شيئًا فشيئًا، وهكذا حدث بالنسبة لعبد السلام عارف، ولصدام حسين، ولغيرهم، وحدث مثل ذلك عند رحيل جمال عبد الناصر وغيره.

واليوم تظهر شائعة وجود اللواء عمر سليمان على قيد الحياة، بل وزعت صور يؤكد أصحابها أنَّها أخذت بعد إعلان وفاته له وهو يتجوَّل في الإمارات العربيَّة المتحدة وغيرها، وتداول الناس ذلك على الفيس بوك، وتجرأ الإعلامي طوني خليفة أن يطرح القضيَّة برمتها من خلال برنامجه أجرأ الكلام.

والقضيَّة كلها تعود إلى رواسب “فكر الرجعة، والمهدويَّة، والعودة الثانية للسيد المسيح”، وكثير من قضايا التراث الديني، التي لم تحظ بمراجعات ودراسات وافية، تسمح بإعادة تقييم تلك الروايات، ووضع تلك القضايا مواضعها من الحقائق، وبيان أنَّ الموت سنَّة إلهيَّة لا يستثنى منها أحد إلا الله، وأنَّ الحياة والأحياء سائرون إلى فناء، تعقبه حياة أخرى، وحشر ونشر، وجنة ونار. والحق أنَّ الإيمان بهذه القضايا له آثار عديدة على مفهوم الآخرة، وحقيقة الموت، والحياة، والبعث، والنشور، مما يقتضي أن نعيد النظر في تلك المسلمات التي شكَّلت أرضيَّة صالحة لتداول مثل هذه الأخبار وهذه القضايا والعناية بها.

ولقد التفتت المخابرات الأجنبيَّة إلى أثر هذه الظاهرة في العقل المسلم، وعملت على استغلالها، ولعل بعض أبناء جيلي يتذكرون الروايات التي تنشر في الغرب، والتي تعتبر من أكثر الكتب المقروءة رواجًا بين الغربيين، يقرأونها في محطات القطار والمطارات والطائرات، وفيها تبرز أحيانًا روايات تشكِّل مناعة لدى الإنسان الغربي تجاه الإسلام، وحاجزًا نفسيًّا بينه وبين محبة المسلمين، أو فهم قضاياهم، وهناك روايات تتجاوز الخمسين من هذا النوع في جميع اللغات، الإنجليزيَّة والفرنسيَّة والألمانيَّة والإيطاليَّة وغيرها.

 وأذكر منها رواية حول تفكير أجهزة المخابرات الثلاثة الأمريكيَّة والبريطانيَّة والروسيَّة بصناعة مهدي للمسلمين، نشرت في الثمانينيَّات، كان عنوان إحداها: (The Mahdi In Islam)  تمثل الرواية لقاء تم بين قادة C.I.A، والمخابرات البريطانيَّة، بحث الطرفان فيها كيفيَّة مواجهة الخطر الإسلامي، والقنبلة الإسلاميَّة، وتهديد الإسلام والمسلمين للحضارة الغربيَّة، فانبثقت أذهانهم عن أنَّ هناك في تراث المسلمين عقيدة اسمها المهدويَّة، وهي عقيدة أشبه بعقيدة المخلِّص في المسيحيَّة، وأنَّ هذه العقيدة يمكن استغلالها بصناعة مهدي تصنعه المخابرات، صناعة مشتركة. وقد تسرَّب الخبر إلى المخابرات الروسيَّة؛ فقررت مفاتحة الجهتين، وطلب الانضمام إلى هذه الجهود، واضطر الأمريكان والبريطانيُّون لإشراك الروس معهم. وتسترسل الرواية، كيف اتفقوا على البحث عن مهدي في جميع أنحاء العالم الإسلامي يحمل المواصفات الموجودة في الأحاديث المتداولة حول المهدي، شكله وطوله وأنفه ووجهه ولحيته وما إلى ذلك.

فوجدوا شخصًا تنطبق عليه الأوصاف يسكن في ماليزيا، فتم اختياره، وقرروا أن يعهدوا إلى شخص آخر من المتعاونين معهم يقيم في جده في المملكة العربيَّة السعوديَّة، فيعهدون إليه بتدريب هذا المرشح للمهدويَّة، ويدرس معه كل ما يتعلق بأخبار وأحاديث المهدي المنتظر، وتخيلوا بعد ذلك كيف يلقنونه مجموعة من القضايا التي يهم الغرب أن يدخل عليها تعديلات في العقل المسلم، ويهيئونه لإعلان مهدويَّته في موسم من مواسم الحج، بعد أن يهيئوا له معجزة هي عبارة عن شيء مركب من الأشعة فوق البنفسجيَّة ومؤثرات أخرى من شأنها أن ترفع أي جسم تسلط عليه من الأرض، وتقذف به بعيدًا، فابتكروا شيئًا قريبًا من “قصة القربان” في الديانتين اليهوديَّة والمسيحيَّة، وهيأوا كل شيء. المهم أنَّ هذه الرواية وروايات أخرى مماثلة طرحتها أجهزة المخابرات في الغرب. ولدي نسختان على الأقل من هذا الكتاب، ولم يلتفت الناس كثيرًا إلى هذا الأمر.

إنَّنا نواجه اليوم علمًا، بل علومًا، وخبرات تاريخيَّة بعقلية خرافيَّة، هل تستطيع الخرافة أن تغلب العلم؟ يستحيل ذلك. فهل يستطيع قومنا أن يتنبهوا إلى ما يجري، ويتفهموا ما يحدث، ويعلموا كيف يُحكِّمون العلم والخبرة فيما يقع لهم، وما يشاهدونه في كل يوم؟ ذلك مشوار طويل، لكن الألف ميل تبدأ بالخطوة الأولى.

إنَّ بلاد المسلمين اليوم تعج بالخرافة، ومن كان لديه شك في ذلك فليراجع المحطات الفضائيَّة، والعدد الهائل من الفلكيين والفلكيَّات، والمتنبئين والمتنبئات، في الحاضر والمستقبل، والغيب والشهادة، وسائر الشئون والشجون، فإنَّا لله وإنَّا إليه راجعون.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *