Menu
منهجية التعامل مع التراث الإسلامي - مراجعة لكتاب من أدب الاختلاف إلى نبذ الاختلاف - أُمْنِيّة أهلِ السجود([1]) - The future of Islam in America and west - جانب من جلسات فريق باحثي الأزهر للعمل على وضع منهجية مراجعة التراث - حوار حول الربيع العربي - الإسلام والمسلمون من وجهة نظر غربية - برنامج اخترنا لمكتبتك - معالم في المنهج القرآني - ومضات فكرية

المفاهيم والمتلاعبون بها الرسالة والنبوة

أ.د/ طه جابر العلواني.

الفتن التي يتعرَّض المسلمون لها في هذه الأيام فتن كثيرة، ومتنوعة، بعضها ما كان يظن أن يبتلى الناس به، ويفتنوا فيه، وبعضها قد يكون مما يتوقعه البعض، ويفاجأ به الأكثرون. نحن متفقون على أنَّ شعوبنا العربيَّة خاصَّة تسود فيها الأميَّة؛ بحيث يغرق في أوحال هذه الفتنة ـ-فتنة الأميَّة ــ نسبة عالية من أبناء الأمَّة، تتراوح بين خمسين وخمس وستين من أبناء الأمَّة على سبيل الإجمال، وهذه أميَّة كاملة، تشمل العجز عن القراءة، والكتابة، والعجز عن التفكير المستقيم؛ ولذلك فإنَّ شعوبنا تعيش حالة تخلُّف شديد عن ركب الحضارة والثقافة.

 وكلما استبشر الناس بكثرة المدارس ودور التعليم يفاجأون بأنَّ الأميَّة ما تزال غالبة، حتى أنَّنا أصبحنا لشيوعها وغلبتها نصنفها إلى أنواع:

 فهناك الأميَّة المعروفة وهي أميَّة من لا يحسن قراءة ولا كتابة.

 وهناك أميَّة أخرى هي: الأميَّة الفكريَّة، والعقليَّة، وذلك حين نجد من يحسنون القراءة، والكتابة؛ سذج وسطحيون في قدراتهم الفكريَّة والعقليَّة، وهكذا.

 وهناك الأميَّة الدينيَّة أي جهل شديد في أمور الدين وضعف في الوعي بمقاصد الدين، وأهدافه، وهناك وهناك.

وكنَّا نظن أنَّ هناك أمورًا عرفت عبر تاريخنا بكونها: «معلوما من الدين بالضرورة»، يراد بذلك أنَّ هناك أمورًا معلومة للقاصي، والداني، وللأميين، وللمتعلمين، هي التي تندرج تحت هذا الذي أطلقوا عليه «المعلوم من الدين بالضرورة»، وكان من بين تلك الأمور المعلومة من الدين بالضرورة مفاهيم: «الدين، والربوبيَّة، والألوهيَّة، والرسالة، والنبوة»، وفوجئنا مؤخرًا بأنَّ كثيرًا من المتعلمين المسلمين لم يعودوا يعرفون الخطوط الفاصلة بين ما هو معلوم من الدين بالضرورة، وبين ما هو غير معلوم.

 ومن بين الأمور التي كنا نظن أنَّها من بين ما هو معلوم من الدين بالضرورة: مفهوم الرسالة، والنبوة، فقد تعرَّض هذان المفهومان لكثير من التأويلات والتفسيرات، التي أدت إلى غموض معانيه؛ حتى لدى بعض أولئك الذين يطلقون على أنفسهم أنَّهم علماء، ويسلم البعض لهم بذلك؛ حيث صار البعض يطلق على بعض الساسة، أو الزعماء لقب نبي، أو رسول دون تحرُّج، فكيف حدث هذا؟ وما الذي أوصل الناس إلى هذه الدرجة من الجهل، وإلى تمييع مفاهيم أساسيَّة مثل مفهومي النبي، والرسول؟

        هذا ما حملنا على أن نفرد هذين المفهومين ببحث وجيز إيضاحًا للحقيقة وبيانًا لها، ولإقامة الحجة على أولئك الذين لم يعد أي مفهوم من المفاهيم الإسلاميَّة في حالة نجاة من استلابهم، وتحريفهم، فنقول وبالله التوفيق:

من الأسبوع الأول الذي يدخل فيه طلبة العلوم الدينيَّة أو الشرعيَّة أو النقليَّة مدارسهم يعلمونهم أنَّ النبي هو: «من أوحي إليه بشرع، ولم يؤمر بتبليغه للناس»؛ لأنَّ المراد أن يكون هناك إنسان يشكل نموذجًا وقدوة صالحة وأسوة لغيره، فكأنَّ رسالته تكون في شخصه، وتتمثل بمسئوليَّته الأخلاقيَّة، واستقامته والتزامه التام بجميع القواعد الأخلاقيَّة.

كما يعلموننا أنَّ الرسول هو: “كل من أوحي إليه بشرع، وأمر بتبليغه للناس”؛ ذلك لأنَّ الرسول مطالب لا بأن يكون مجرد قدوة في نفسه يقتدي غيره به، بل نزلت إليه رسالة عليه أن يبلغها، والرسالات نوعان: فهناك رسالات خاصَّة بأقوام وبقرى أو شعوب، وهناك رسالات عالميَّة، والرسالة العالميَّة هي رسالة محمد بن عبد الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فهو النبي الخاتم والرسول الأخير الذي أرسل رحمة للعالمين.

والوحي أمر غيبي لا نعرفه ولا نعلمه إلا من خلال الغيب من خلال القرآن، فالله (تبارك وتعالى) قال: ﴿وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (الشورى:51)، وحين سئل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن الوحي وكيف بدأ، وصفه كما في حديث البخاري: أنَّ الحارثَ بنَ هشامٍ ــ رضي اللهُ عنه ــ سأل رسولَ اللهِ (صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ) فقال: يا رسولَ اللهِ، كيف يأتيك الوحيُ؟ “فقال رسولُ اللهِ (صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ): أحيانًا يأتيني مثلَ صلصلةِ الجرسِ، وهو أشدُّه عليَّ، فيفصِم عني وقد وعيتُ عنه ما قال، وأحيانًا يتمثَّل لي الملَكُ رجلًا، فيكلِّمُني فأعِي ما يقولُ”. فذلك هو الوحي، وذلك معنى النبي ومعنى الرسول.

وأول المحاولات لتسييل هذه المفاهيم الثلاث تمهيدًا للطعن بها، كانت حين حاول أصحاب فكر المقاربات الذين أدهشتهم الحضارة الغربيَّة بمنجزاتها فتأثروا تأثرًا شديدًا بها وصاروا قليلي الثقة بأي شيء لا يدخل إليهم من البوابة الغربيَّة، ومنه هذه المفاهيم، فصار بعض أولئك الذين يكتبون انطلاقًا من المقاربات للفكر الوافد يطلقون على الأنبياء والمرسلين عباقرة، ويتحدثون عن عبقريَّة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، ويتجاهلون كلمة الوحي والجانب الغيبي فيه، ويصفون هؤلاء الأنبياء والمرسلين بالعباقرة، فإذا سألهم المسلم قالوا: إنَّنا مدحنا النبي أو الرسول بوصفه بالعبقريَّة، وبذلك فإنَّنا لم نبخسه حقه، والعبقري ليس مثل تلك المفاهيم، ولا يقاربها، فمخيلة العرب احتضنت في المخيال الشعبي فكرة عبقر والعبقري بمعنى وادي للشياطين والجن، وقد ألف الناس أن يصفوا الذكي جدًا بأنَّه عبقري، لما ارتسم في أذهانهم من أنَّ الجن والشياطين هم الأذكى، والأوسع قدرة وحيلة؛ فلذلك ينسبون الأذكياء جدًا إلى هذا الوادي وادي عبقر أو يقولون إنَّ أبويه أو أحدهما كان من الجن.

المهم أنَّنا وجدنا هؤلاء المضبوعين بالثقافة الوافدة يستبدلون تلك الكلمات الإسلاميَّة بكلمة العبقري والعبقريَّة، وعلى ذلك أطلق العقَّاد على كتبه العبقريَّات، وأطلق كتَّاب كثيرون على سيدنا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) بأنَّه عبقري، وصرنا نسمع كلمة عبقريَّة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) أكثر مما نسمع كلمة رسول الله أو كلمة النبي أو من أوحى الله إليه، وكأنَّ المفاهيم الحقيقيَّة القرآنيَّة الإسلاميَّة قد اختفت لصالح مفهوم العبقري.

ثم فاجأنا ميشيل عفلق مؤسِّس حزب البعث العربي الاشتراكي الأول بالترويج لمفهوم العبقري في داخل صفوف الحزب وفي ثقافته، وألقى خطبة بمناسبة أحد الموالد النبويَّة تحدث فيها عن عبقريَّة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، وصدرت تلك الخطبة العصماء المليئة بالأخطاء في كُتَيِّب صغير، وعنه انبثق الشعار البعثي المعروف “كان محمدٌ كل العرب، فليكن اليوم كل العرب محمدًا”، وفي رواية أخرى عن الأستاذ “فليكن كل عربي محمدًا”. وهنا سال المفهوم ليصبح محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) لا نبيًّا ولا رسولًا ولا خاتم النبيين، ولا الذي صلى الله عليه وملائكته، وأمر الله البشريَّة كلها أن تصلي عليه، فهو مجرد إنسان عبقري، ذكي جدًا، تجمعت فيه آمال وآلام الشعب العربي في الجاهليَّة فصنع لهم الإسلام، ثم طوره كما أحب ليجعل الإسلام تعبيرًا عن الثورة العربيَّة المختزنة في عقول العرب ونفوسهم، ومنذ ذلك التاريخ وأعضاء حزب البعث يرددون هذا الشعار “كان محمدٌ كل العرب، فليكن اليوم كل عربي محمدًا”.

وحين كان الرئيس السادات في مصر رئيسًا لتحرير جريدة الجمهوريَّة القاهريَّة كتب مقالة يمتدح فيها “لومومبا” بعد اغتياله، وأطلق عليه نبي القرن العشرين، ومعلوم أنَّ السادات رجل متدين، وينتسب إلى قرية متدينة من قرى مصر، لكن فكر المقاربات جعل استعمال لفظ النبوة مبتذلًا، بحيث صار يطلق على المؤمن وغيره، فكل من تصدى لقيادة جماعة أو حزب صار حريًا بأن يطلق عليه نبي، وحين توفي الراحل جمال عبد الناصر؛ خرج علينا نزار قباني بقصيدته المعروفة التي مطلعها: قتلناك يا آخر الأنبياء. يريد بذلك الرئيس الراحل جمال عبد الناصر.

 واستمرت عمليَّات تسييل مفاهيم النبوة والرسالة والرسول والنبي والخاتم وما إلى ذلك حتى يومنا هذا، واختلطت هذه المفاهيم ولم يعد المسلمون يستنكرون شيئًا منها، بل أضافوا إليها مفاهيم أخرى تم تسييلها، ومنها مفهوم الدين، يوم قال رئيس تحرير جريدة الثورة البعثيَّة الثوريَّة:

 آمنت بالبعث ربا لا شريك له *** وبالعروبة دينًا ما له ثان

        فبعد تسييل مفاهيم النبوة والرسالة تم تسييل كلمات الرب والإله والدين على ألسن هؤلاء. وفي الدولة الفاطمية قام أحد المنافقين بمخاطبة الحاكم بأمر الله الفاطمي، وكان عمره ثلاثة عشر عامًا بقوله:

ما شئت لا ما شاءت الأقدار *** فاحكم فأنت الواحد القهار.

وقد ردد البعض بعد ذلك الذي سن هذه السنَّة السيئة المنحرفة الإجراميَّة بإطلاق كلمات الرب والإله على كثير من المستبدين، وحين كان صدام حسين يحكم العراق قال له أحد الشعراء البعثيون:

تبارك وجهك القدسي فينا *** كوجه الله ينضح بالجلال.

وهكذا لم يعد هناك مفهوم من هذه المفاهيم يحظى بأيَّة حماية أو صيانة عن استعمالات السفهاء المنحرفة، فصارت نهبًا مباحًا يطلقه من شاء على من يشاء، ولا يسأل الناس عما إذا كان ذلك كفرًا أو من نواقض الإيمان، أو شركًا ينافي التوحيد يجب البراء منه، وإنكاره، والوقوف بوجوه المستهترين به.

والأمَّة التي تسيل فيها المفاهيم الكبرى وتضيع وتمتهن هذه المفاهيم أمَّة لن تستطيع مهما فعلت أن ترمم حضارة أو تعيد بناء حضارة، فضلًا عن أن تنشئ حضارة، ولن تستطيع أن تؤسِّس لثقافة أو تبني لها، أو توجد بيئة ملائمة لتأسيس حضارة أو بناء عمران أو تشييد ثقافة، إنَّها أمَّة قد تودع منها، وانتهى دورها التاريخي، وأصبحت كبناء آيل للسقوط، أو شمس تقترب من الأفول، فيا قومنا حافظوا على البقيَّة الباقية من مفاهيمكم، ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قيامًا، ولا تسمحوا لهم بابتذال مفاهيمكم.

والمفاهيم أغلى بكثير من الأموال، فلا ينبغي أن تعطى الفرصة لأي أحد مهما كان أن يتلاعب بمفاهيم الأمَّة، ويشتري الدنيا بحطام تلك المفاهيم، فالمفاهيم ملك الأمَّة كلها، تمثل ماضيها وحاضرها ومستقبلها، والأمَّة التي لا تستأمن على مفاهيمها، ولا تحمي تلك المفاهيم من الضياع والتلاعب هي أقل شأنًا ممن يتساهل في عرضه، ويفرِّط في شرفه، فاعرفوا أيُّها الناس مفاهيمكم، واحرصوا على المحافظة عليها، خاصَّة تلك التي ورد كتاب الله بها، وإياكم والتساهل في التلاعب بها وتدمير معانيها، وتفكيكها من الداخل أو الخارج، وليتق الله أولئك الذين استهتروا بالأمَّة ومفاهيمها، وفتحوا إلى التلاعب بها سبلًا ما كان ينبغي أن تفتح، وليتقوا يومًا يرجعون فيه إلى الله، ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون، وأخسر الخاسرين من باع آخرته بدنيا سواه.

(يتبع)

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *