Menu
منهجية التعامل مع التراث الإسلامي - مراجعة لكتاب من أدب الاختلاف إلى نبذ الاختلاف - أُمْنِيّة أهلِ السجود([1]) - The future of Islam in America and west - جانب من جلسات فريق باحثي الأزهر للعمل على وضع منهجية مراجعة التراث - حوار حول الربيع العربي - الإسلام والمسلمون من وجهة نظر غربية - برنامج اخترنا لمكتبتك - معالم في المنهج القرآني - ومضات فكرية

المسئوليَّة (5) الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

أ.د/ طه جابر العلواني

إنَّ الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستهديه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا.

أمَّا بعد:

معًا على الطريق يا أخي، نتابع هذا الحوار:

قال المربي لتلميذه: هل عرفت الآن، خطأ الذين يزعمون أنَّ أحدًا لا يُسأل عن عمل غيره قط، وإنَّما يُسأل كل امرئ عن عمله المباشر؟

قال الطالب: نعم .. ولقد كنت أنا من بين هؤلاء فلما أنرت ليّ الطريق، رأيت حول كل امرئ منا منطقة من أعمال غيره، يحاسب المرءُ عليها كما يحاسب على أعمال نفسه، ويجازى عنها كما يجازى عن أعمال نفسه .. ولما ظننت أنَّ هذه المنطقة هي نهاية المدى، كشفت لي عن منطقة ثانية وراءها، علينا أيضًا حسابها، ولنا ثوابها وعقابها .. وكذلك ــ حين انتهيت إلى محيط الدائرة الجديدة ــ انفرجت أمام عيني دائرة أخرى أوسع منهما مجالاً، في الزمان وفي المكان.

قال المربي: هل تستطيع يابني أن تصف لي طبيعة هذه المراحل التي قطعناها؟

قال الطالب: لقد رأيت في المرحلة الأولى؛ أنَّنا نحاسب ونجازى عن كل فعل يفعله غيرنا امتثالًا لأمرنا، وخضوعًا لسلطاننا .. ورأيت في المرحلة الثانية؛ أنَّنا مسؤولون حتى عن عمل أولئك الذين لم نأمرهم لزامًا، ولم نحملهم على الفعل كرهًا، أولئك الذين لا سلطان لنا عليهم، وإنَّما هو الرأي زيناه في أعينهم، أو النصح أسديناه إليهم، أو الفتيا قدمناها لهم .. ثم رأيت في المرحلة الثالثة؛ مسؤوليَّتنا عن أعمال الذين لم نأمرهم، ولم نُحرضهم، ولم نرغبهم ولكنَّهم رأونا أو سمعوا بنا نعمل عملًا ما، فاستحسنوا سيرتنا في ذلك العمل، ونسجوا فيه على منوالنا، ولو من حيث لا نشعر.

قال المربي: لقد أحسنت سمعًا حين استمعت، ووفيت جمعًا حين جمعت. ولكن هل اقتنعت؟ هل آمنت معي بأنَّ مسؤوليَّتنا عن فعل غيرنا ــ في هذه الأحوال الثلاثة ــ مسؤوليَّة عادلة لها ما يبررها ؟.

قال الطالب: ومالي لا أومن بذلك؟. ألسنا حين نأمر بالفعل أو نرغِّب فيه، قد تسببنا فيه تسببًا عن عمد وقصد؟. أو لسنا حين نفعل الفعل، على مرأى ومسمع من غيرنا، قد وضعنا أنفسنا موضع القدوة لمن يقتدي، ورسمنا الطريق لمن يقتفي؟. وهكذا ــ من حيث نقصد أو لا نقصد ومن حيث نشعر أو لا نشعر ــ قد تسببنا في صدور هذا الفعل الآخر عن فاعله. فهو إذًا من آثارنا التي تُكتب علينا. لقد وضعنا النواة التي جاء غيرنا فسقاها. فمن العدل إذًا أن نجني معه ثمارها، وأن نذوق معه حُلوها ومُرها.

قال المربي: أفدت وأجدت .. والآن، أدعوك أن تسير معي مرحلة أخرى، لأريك أنَّ مسؤوليَّتنا تمتد إلى ماوراء ذلك كله.

قال الطالب: هل تعني أنَّنا نسأل عن فعل فعله غيرنا من تلقاء نفسه، لم تكن لنا فيه سابقة، ولم يكن لنا في صدوره تدخل مباشر ولا غير مباشر، مقصود ولا غير مقصود؟.
قال المربي: نعم.. ذلك الذي أردت.

قال الطالب: حاشا لشريعة الإسلام أن يكون هذا من تعاليمها!. إذ أي مجال يبقى لتطبيق القاعدة الإسلاميَّة العظمى:﴿ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾ (الإسراء:15) إن لم يكن هذا المجال؟!.

قال المربي: يابني لا تعجل. إنَّ الذين يقترفون الإثم من تلقاء أنفسهم، غير مستنين بسنتنا، ولا مؤتمرين بأمرنا ولا متبعين لإيحائنا، لو تركناهم وشأنهم يفعلون ما يشتهون على حسابهم، وتحت مسؤوليَّتهم، إذًا لاستلانوا مُركَّب الضلالة، واستمرؤا مرعى الغواية، وإذًا لكانوا فتنة لغيرهم، وإغراءًا لضعفاء الإرادة باتباع سبيلهم، وإذًا لانتشرت الآثام في الجماعة، وشاعت المنكرات في الأمَّة.

ونحن مسؤولون عن طهارة المجتمع وسلامته، وصلاحه واستقامته: ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ﴾(البقرة:251)، ألم تسمع إلى المثل البليغ، الذي صورت به الحكمة النبوية هذا المعنى؟. روى البخاري عن النعمان بن بشير ــ رضي الله عنه ـــ قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): “مثل القائم على حدود الله والمُداهن فيها كمثل قوم استهموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا الماء مرُّوا على من فوقهم، فقال الذين في أعلاها: لا ندعكم تصعدون فتؤذوننا! فقال الذين في أسفلها: لو أنَّا خرقنا في نصيبنا خرقًا ولم نؤذ من فوقنا. فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعًا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا جميعًا”، بل ألم تسمع إلى العبرة البالغة، فيما قصه الله علينا من نبأ إسرائيل: ﴿لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ﴾ (المائدة: 78-79).

قال الطالب: لقد عوَّدتنا أيُّها المربي الحكيم، ألا نكتفي بسوق الحكم ودليله، عن معرفة حكمته وتعليله. وإنِّي مازلت أتساءل: أي دخل للبريء منَّا في صدور الجريمة عن المجرمين؟. أي تسبب منه مباشر أو غير مباشر، يبرر مشاركته إياهم في جزاء أعمالهم؟

قال المربي: ألم أقل لك يابني، إنَّ المسؤوليَّة في هذه المرحلة ضَربٌ قائم بنفسه؟ ليس من جنس المسؤوليَّة في المراحل السابقة، بل يجيء من ورائها؛ ذلك أنَّ سكوتنا عن المنكر والباطل، ليس تسببًا في أصل وقوع المنكر؛ لأنَّه وقع بغير تدخل منا، ولكن السكوت عنه تسبب في بقائه واستمراره، أو في تجدده وتكراره أو في شيوعه وانتشاره﴿ كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا ﴾(الإسراء: 38).

قال الطالب: إذا كان النهي عن المنكر واجبًا، والسكوت عنه إثمًا، أليس بحسب الذي يفرط في واجبه، أن يحمل مسؤوليَّة تفريطه هو؟. وأن يستحق إثم سكوته هو؟ أما أن يشارك أرباب المنكرات في مسؤوليَّاتهم، ويستحق مثل أجزيتهم، كما هو أصل المسألة، فتلك دعوى زائدة لم تقدم لنا دليلها؟ فأين نجد هذا الدليل؟.

قال المربي: اقرأ إن شئت قول القرآن الحكيم:﴿ وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آَيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ﴾(النساء:140) إنَّكم إذًا مثلهم. أرأيت كيف جعل الساكت على الكفر، هو والكافر سواءٌ؟. وجعل الساكت على الاستهزاء، هو والمستهزئُ سواء؟

قال الطالب: الآن جئت بالحق، وهذا هو فصل الخطاب.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

 

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين، والصلاة، والسلام على أشرف المرسلين، سيدنا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم).

أمَّا بعد:

إنَّ أول ما ينبغي الالتفات إليه عند الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر أن يكون أمرهم بالمعروف معروفًا، ونهيهم عن المنكر غير مستنكر، فالمعروف ما عرفته الفطرة، وتقبلته، وتهيأت لقبوله، والمنكر ما عافته ورفضته واستنكرته الفطر السليمة، فإذا خاطبنا الناس، فعلينا أن نخاطبهم بالمعروف، فالآمر بالمعروف لا يحق له أن يستعلي على من يأمره بالمعروف أو يستكبر، أو يسخدم أي أسلوب منفر، بل عليه أن يكون كالصيرفي الحكيم يختار أحسن الألفاظ، وأبسط الأساليب، وأكثرها ترغيبًا، وتأثيرًا في النفوس، وهو يدعو إلى المعروف الذي يؤمن به، أو إلى مجانبة المنكر؛ لأنَّ من أخطر الأمور المنفرة أن تأمر بالمعروف أمرًا ينفر الناس منه، ويحملهم على التشبث بالمنكر الذي هم عليه.

 وأهم وأخطر ما يسقط فيه الدعاة اليوم ذلك الاستعلاء أو الغرور أو الاستكبار على من يأمرونهم بالمعروف أو ينهونهم عن المنكر، فتراهم لا يكلفون أنفسهم أن يقولوا قولًا هينًا لينًا لعله يتذكر أو يخشى، في حين أنَّ الله (تبارك وتعالى) أوحى إلى موسى وهارون أن يخاطبا فرعون الذي ادعى الألوهيَّة، وارتكب أخطر ما يمكن أن يرتكبه إنسان يحارب ربه: ﴿فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (طه:44)، وذلك يعني أنَّ على الدعاة أن يتزودوا بالخبرات اللازمة في فنون الخطاب ونفسيَّات الناس واستعداداتهم، ومعرفة ظروفهم وواقعهم بكل تفاصيله قبل أن يتصدوا لأمرهم ونهيهم وما إلى ذلك.

        فلرب أمر بمعروف صادف غير موضعه أو وقته، أو صيغ بأسلوب جاف فأدى إلى عكس ما يريد الداعية، وعلى المتصدين لهذه المهام الخطيرة أن يحسنوا إعداد أنفسهم ويتعلموا ويتدربوا؛ ليحسنوا خدمة دينهم وأمتهم أو فليبتعدوا عن هذه المواقع، فإنَّ شر الناس من تسبب في إضلالهم أو إبعادهم عن ربهم، وإسلامهم للشيطان وجنده.

أقول قولي هذا واستغفر الله لكم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *