Menu
منهجية التعامل مع التراث الإسلامي - مراجعة لكتاب من أدب الاختلاف إلى نبذ الاختلاف - أُمْنِيّة أهلِ السجود([1]) - The future of Islam in America and west - جانب من جلسات فريق باحثي الأزهر للعمل على وضع منهجية مراجعة التراث - حوار حول الربيع العربي - الإسلام والمسلمون من وجهة نظر غربية - برنامج اخترنا لمكتبتك - معالم في المنهج القرآني - ومضات فكرية

الأكاديميَّة الغربيَّة .. والتراث الإسلامي

أ.د/ طه جابر العلواني

تسعى الأكاديميَّة الغربيَّة لمعرفة كل ما تستطيع عن الإسلام والتراث الإسلامي بكل تفاصيله الجزئيَّة والكليَّة، وكذلك عن المسلمين طوائف ومذاهب وفرقًا وتاريخًا وحضارةً وثقافةً، وذلك أمر طيِّب لا يزعجنا بل نشجع عليه، بقطع النظر عمَّا ستؤول إليه تلك المعلومات، وكيف سيتم توظيفها في أحوالنا المختلفة والمتنوعة مع الغرب.

 واستطاعت الأكاديميَّة الغربيَّة أن تستقطب آلاف الأساتذة من العرب والمسلمين من مختلف أقطار الأرض؛ لتحصل على كفايتها من العقول القادرة على خدمة هذا الجانب المعرفي الهام، ويدهش المرء وهو يلاحظ الأكاديميَّة الغربيَّة وتتبعها الدقيق لكل ما يتعلق بنا، بحيث تدرس أمورًا تتعلق باللغة والثقافة وعادات الناس، وأعرافهم في الأفراح والأحزان وسواها، بشكل يصل إلى أدق الجزئيَّات وأصغرها وأقلها شأنًا بالنسبة لها.

 والمنهجيَّة الغربيَّة منهجيَّة قد استكملت أدواتها، وأطلقت على ما تريده ما تشاء من الصفات، وأحاطته بالضوابط التي تريدها، بحيث تستطيع أن تتحكم فيما تسميه علمًا وما لا تسميه علمًا، وما تطلق عليه أنَّه موضوعي أو ما هو ليس بذلك، فكل تلك أمور قد فرغ العقل الغربي والمنهج الغربي والأكاديميَّة الغربيَّة من بلورتها، والعربي المسلم وغير المسلم وغير العربي مهما كانت خلفيَّته لن يستطيع أن يغيِّر في تلك التقاليد الأكاديميَّة الغربيَّة التي أصبحت راسخة، وشكَّلت عرفًا أكاديميًّا على مستوى العالم.

وهناك رؤية كليَّة للغرب ينطلق منها الباحثون بدراسة الذات والآخر، فالإنسان الغربي ذات وأي إنسان آخر هو موضوع للبحث والدراسة من وجهة نظر الذات، فالذات هي التي تقرر كيف وبأي منهج ومن أي المنطلقات وبأي المصادر تنطلق في دراسة الموضوع الذي هو الآخر، وتصدر أحكامها دون التفات إلى أي شيء آخر، فإذا قيل لها بأنَّ لهذا الآخر منهجه ومصادره وموارد فكره وأدواته قالت: هي من جملة ما سوف يدرس. وبالتالي فإنَّها تعطي لنفسها صلاحيَّة دراسة الآخر، وتصف دراساتها مادامت وفقًا لمنهجها بالعلمويَّة والموضوعيَّة، وأيَّة دراسة تخرج عن ذلك تُقذف بالتحيُّز واللاعلميَّة وربما الخرافة، وأي شيء آخر.

 فعلى سبيل المثال: نجد القرآن المجيد يضرب فكرة  الأكثريَّة، ولا يسمح بربط الحق أو الباطل أو الصواب أو الخطأ بفكرة الأقليَّة العدديَّة أو الأكثريَّة؛ لأنَّ الصواب في نظر الإسلام مفهوم خاص، له ضوابطه ومواصفاته، فإذا وجِدَت تلك الضوابط والمواصفات قيل هذا صواب أو خطأ أو حق أو باطل، مجردًا عن العدد الذي يقول بذلك؛ ولذلك تجد القرآن يقول: ﴿.. وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ (الأنعام:37)، ﴿.. وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ﴾ (الأنعام:111)، ﴿وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ﴾ (يوسف:106)، فأنت تجد هنا أنَّ الأكثريَّة فصل ما بينها وبين الحق، أو الصواب، أو الباطل.في حين أنَّ المنهج المتبع في الأكاديميَّة الغريبَّة في كل استبيان ننظر الأرقام، وفي ضوئها نقرر أنَّ هذا الأمر هو الذي حظي بالأكثريَّة إذن هو ما ينبغي الأخذ به، وأنتم تعرفون أنَّ الصوت الواحد في الديمقراطيَّات قد يغيِّر مصير بلد أو نظام.

 إنَّ العقل الغربي لا يستطيع تقبُّل فكرة الوحي، ووجود مركزيَّة للإنسان خارج الدائرة الإنسانيَّة، فالإنسان هو مركز الدائرة وقطبها، لا يملى عليه من خارج ذاته شيء، فالدستور والقانون والنظم والحق والباطل والخطأ والصواب كلها ينبغي أن تنبثق عنه، فإذا جئت تتعامل مع الوحي لتقدير قيمته المعرفيَّة فإنَّه يقول لك: المعرفة كل معلوم خضع للحس والتجربة. وهذا الذي تسميه بالوحي إمَّا أن نخضعه للحس والتجربة، ونقيسه بمقاييسهما، وإلا فإنَّه لا يعتبر علميًّا، ويجب أن يخرج خارج الدائرة العلميَّة، ويلحق بالخرافة أو الشعوزة أو أيًّا كان، ولكنَّه لا يقال له علمي، وهذا أول تناقض.

فحين يأتي الأكاديمي في الأكاديميَّة الغربيَّة ليتعامل مع وحي فيقول: قال: الله. قال: رسوله. يُقال له: قف، نحن لا نعرف هذه المصادر، هذه المصادر ليست بعلميَّة، وليس لباحث أن يستدل بها حتى يثبت علميَّتها، وفقًا لمقاييس الأكاديميَّة الغربيَّة. فإذا علمت أنَّ جميع العلوم الشرعيَّة أو النقليَّة هي معارف دارت حول الوحي فتستطيع أن تتبين أنَّها معارف، لا ندري في أي مستوى من المستويات يمكن أن توضع بالنسبة للأكاديمي الغربي، حيث وضع كل ما يتعلق بالدين ومصادره وأدواته في سلة سماها باللاهوت، وأحاطها بنوع من المرونة التي تسمح لها أن تفلت من قيود العلمويَّة والموضوعيَّة؛ لتقبل كما هي باعتبارها لاهوتًا وفرعًا من فروع المعرفة.

 ومن المؤسف أنَّ هذه الأكاديميَّة لم تتعامل مع التراث الإسلامي مثلما تعاملت مع التراث الكنسي، فلم تمنحه تلك الفرصة، فنفت عنه الصفة العلميَّة والموضوعيَّة، ووضعته في منطقة رماديَّة، بحيث تستطيع أن تصنفه كما تشاء في أي وقت تشاء، فأحيانًا تضعه في دائرة الخرافة، وأحيانًا تضعه في دائرة اللاهوت غير التوحيدي، وقد تصفه بأنَّه لاهوت المحمدنيزم، أي المحمدية، باعتبار أنَّ المسلمين في نظر البعض يعبدون محمدًا (صلى الله عليه وآله وسلم) وأحيانًا وأحيانًا ..

من هنا فإنَّه ينبغي للباحث المسلم وهو يبحث في هذه الأمور أن يكون لديه من الوعي والإنصاف ما لا يؤدي إلى ظلم التراث الإسلامي أو تهميشه، أو تحكيم المقاييس الغربيَّة والضوابط الغربيَّة التي وضعت لضبط نسق معرفي منبثق عن حضارة أخرى، مغايرة للنسق المعرفي الإسلامي.

يفرح بعض الباحثين المسلمين حين يجدون في دراسات الأكاديميَّة الغربيَّة تفسيرات لبعض العلوم أو المعارف التي لديهم؛ تعالج بعض إشكاليَّاتها، ويتشبثون بما تقدمه من تفسيرات قريبة إلى الأذهان، سائغة لدى العقل المسلم المعاصر، نتيجة لشيوع قواعد التفكير المشتركة، التي استطاع الغرب أن يفرضها بهيمناته المتعددة على عالم اليوم. لكن ينبغي أن يفهم هؤلاء أنَّهم انحازوا إلى الذات ضد الموضوع الذي هو الآخر ــ المراد به نحن في هذه الحالة ــ ودرسوه من وجهة نظر الآخر، الذي سمى نفسه بالذات، كما حلى له. وحينما تغربل تلك الدراسات وفقًا لمناهج وأدوات ذلك النسق؛ تكتشف الفروق وتظهر المشكلات، ويتبين أنَّ تلك التفسيرات التي قدمتها دراسات الآخرين إنَّما لامست نفسه؛ لأنَّه انطلق في عمليَّة الفهم والموازنة والمعايرة من قواعد التفكير المشترك وهي قواعد غربيَّة في الأصل.

والله أعلم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *