أ.د/ طه جابر العلواني
لم أكن أدري ما سيحدث لي نتيجة الأسماء المستعارة أو المغيَّرة في جوازات السفر إلا بعد فترة، فبعد قصة جواز السفر اليمني، والأردني (الفلسطيني)؛ وجدت نفسي حريصًا كلما واتتني فرصة على أن أذكر اسمي الرباعي وأردده بشيء من الاعتزاز، خاصَّة في الوثائق الدراسيَّة، وظلت هذه العادة ترافقني إلى أن غادرت إلى الولايات المتحدة واستقر بي المقام فيها، فكنت أصر على أن أذكر الاسم الرباعي “طه جابر فياض العلواني”، في معاملات الهجرة والمعاملات المصرفيَّة وغيرها، والأمريكان لا يرغبون بأكثر من ذكر الاسم الثلاثي، وكثيرًا ما تطالبني بعض الدوائر بحذف اسم الجد أو اللقب، وأصر على وضعه؛ فيستجيبون مكرهين، فالمواطن عندهم محترم يصعب أن يرفضوا له طلبًا لا يخالف القانون مخالفة صريحة.
ثم بعد ذلك نصحني مكتب (Social Insurance) التأمين الاجتماعي بأن استخدم الرموز، فبدلًا من اسم الوالد جابر استخدم (J) و (F) لاسم الجد الذي هو فياض، وإذا ذهبت للقيام بأيَّة معاملة في المرور أو في البنك أو في غيرهما فقد أنادي ب (T.J) بدلًا من طه جابر، لا يزيدون على ذلك، وكان ذلك يزعجني جدًا، وأشعر كما لو كنت في سجن وأعطيت رقمًا أو رمزًا، إلى أن ألفت الوضع، وصارت زوجتي ــ رحمها الله ــ تناديني ب (T.J) مما خفف عني، وجعلني أعتاد ذلك النوع من التسمية المبتورة، التي لم نألفها، ولم نعتد على التنادي بها.
قبل أن أحط الرحال في الولايات المتحدة كانت محطتي الأخيرة في البلاد العربيَّة في المملكة العربيَّة السعوديَّة، وتذكرت أنَّني حين زرت المملكة العربيَّة السعوديَّة سنة 1971 بعد فشل محاولة الانقلاب ضد نظام البكر وصدام، ولقيت من لقيت من المسئولين فيها، قُدِّمت إلى الملك الراحل فيصل ــ طيب الله ثراه ــ فاستمع مني لتقرير كامل عما حدث، وانتقدت الإيرانيين ــ آنذاك ــ ونظام الشاه، وغرور الشاه ورجاله، واغترارهم بالطائفيَّة السياسيَّة؛ مما جعلهم يدمرون البقيَّة الباقية من عناصر المقاومة لدى الشعب العراقي لنظام البكر وصدام، وتعاطف الرجل معي وحوقل واسترجع، وأمر كمال أدهم وعمر شمس ــ آنذاك ــ أن يهتما بالمحافظة عليّ، وعرض عليّ الإقامة في المملكة، وتعييني في أيَّة كليَّة شرعيَّة أو جامعة أحب العمل فيها، وقال منذ اليوم اعتبر نفسك واحدًا من أبناء فيصل، فأنا شخصيًّا مسئول عن حمايتك والمحافظة عليك، فاختر أي بلد من بلدان المملكة تحب الإقامة فيها، وستتخذ الإجراءات اللازمة لتيسر كل ما أنت بحاجة إليه.
فقلت له: ليس معي في الوقت الحاضر إلا شهادة الماجستير، وأحب أن أحصل على الدكتوراه؛ لئلا يقول الناس: بأنَّني لم أكن كفؤًا للعمل في الجامعة، ولكنَّني عينت بتوصية من جلالتك، فقال لي: اذهب حيث تشاء، وأكمل دراستك، وسنكون سعداء باستقبالك بعد أن تعود، وطمئني عن نفسك، وسير دراستك، باعتبارك واحدًا من أبنائي، وإذا كنت في حاجة إلى شيء الآن فسآمر كمال وعمر أن يدبرا لك الأمور، قلت له: ربما أحتاج جواز سفر، قال لي: متى احتجت فابعث لي وسنوافيك به ــ إن شاء الله.
وحين استشهد فيصل كانت خسارة السعوديَّة والشعب العربي كله خسارة كبيرة، فقد كان رجلًا يدرك مداخل السياسة ومخارجها، ويعرف كيف يخاطب الأمريكان وسواهم، ولعلَّه آخر زعماء العرب الذين كانوا يحسنون صناعة سياسات التوازن في السياسة، على المستوى الإقليمي والمستوى العالمي ــ تغمده الله برحمته.
وللحقيقة والتاريخ أسجل: أنَّني وقد عشت تلك المرحلة، أعتبر الملك فيصل هو من أهم أبطال (6 أكتور 1973)، وانتصار العرب فيها، دون غمط لحقوق أبطال آخرين لا يضيرهم جهلنا بهم، ولا ينفعهم علمنا بأدوارهم، وهذه وحدها قد تحتاج من بعض المؤرخين المتخصصين في تلك المرحلة أن يولوها عنايتهم، ويبرزوا الدور الفيصلي فيها، ولم يكن سهلًا على ملك للسعوديَّة أن يقود السعوديَّة إلى تلك المواقف المشرفة لولم يكن فيصل ــ طيب الله ثراه. فهذه شهادة أقولها للحقيقة والتاريخ.
حين عدت إلى السعوديَّة بعد حصولي على الدكتواره كان فيصل ــ يرحمه الله ــ قد اختفى عن المشهد، بحادثة الاغتيال البشعة التي لا يمكن تبرئة “كيسنجر” منها، وهناك حادثتان لحكَّام عرب: حادثة استشهاد فيصل، وحادثة سقوط عبد السلام عارف. كلا الحادثين ترتبت عليه أمور خطيرة في المنطقة، ومن المؤسف أنَّه لم يجرِ تحقيق دقيق في أي منهما، وذهبا كأنَّهما قتلا في مجرد حادث عاديّ، وليسا كذلك.
المهم بعد أن وصلت السعوديَّة صيف سنة 1975 وصلتها بعد عقد مع الراحل نايف بن عبد العزيز، وقعته مستشارًا للحقوق الخاصَّة في وزارة الداخليَّة، وبذلك استطعت التغلُّب على الاختلافات بين جواز سفري وشهاداتي ووثائقي الدراسيَّة، وبعد أن وصلت واستقبلني الأمير نايف ــ يرحمه الله، ذكرت له أنَّني على وعد من الملك فيصل بالحصول على جواز سفر سعودي، ولعله آن الأوان لإنجاز ما وعد به ــ يرحمه الله، فقال الرجل: أبشر، وجهز أوراقك وآتني بها، واعتبر الوعد الفيصلي أمرًا ساميًّا، ومنحني جواز سفر سعودي.
ولأول مرة يوضع اسمي كما هو على ذلك الجواز؛ ولذلك كان مصدر اعتزاز لي من نواح عديدة: أهمها: أنَّه سعودي يتيح لي زيارة الحرمين وقتما أشاء. ثانيًا: كونه مبني على وعد من فيصل. ثالثًا: ما أومن به من أنَّ جزيرة العرب شئنا أم أبينا هي البقيَّة الباقية للعروبة والإسلام، بما تمثل من خدمة الحرمين الشريفين، بقطع النظر عن أيَّة مواقف قد يتفق الناس عليها أو يختلفون فيها، في إطار السياسات المتغيرة والمتقلبة التي تموج المنطقة بها، والتي تجعلنا نتفق ونختلف مع القيادة السعوديَّة حول العديد منها. رابعًا: أنَّه باسمي الصريح، فلم أعد بحاجة إلى أن أتذكر الفروق بين اسمي في جواز السفر واسمي الحقيقي.
وبقيَّ جواز السفر السعودي هذا معي لمدة ثمانية وعشرين عامًا، حافظت عليه واعتززت به، وبعد أن حملت الجنسيَّة الأمريكيَّة احتفظت به، وأعلنت أنَّه سيكون الهُوِيَّة الثانية التي أحملها إلى جانب جواز سفري الأمريكي، وأخذت الموافقات اللازمة على ذلك في أمريكا، وفوجئت في عام 2003 بعد احتلال العراق وتفكيك دولته وإرسالي جواز سفري السعودي للتجديد، بمكالمة تليفونية من قنصل المملكة ــ آنذاك ــ في واشنطن، يخبرني فيه بأنَّ خادم الحرمين الشريفين يرسل بتحياته إليّ ويقول: بأنَّ فلان عزيز علينا، ولكن لقد أذن الله بتحرير العراق ــ سموا الاحتلال الأمريكي للعراق تحريرًا ــ ويستطيع العودة إليه، والاستغناء عن جواز سفرنا؛ ولذلك فنرجو أن لا ينتظر تجديد هذا الجواز مرة أخرى، ومتى ما احتاج لزيارة المملكة فسوف نعمم على جميع سفاراتنا لتقديم التسهيلات اللازمة له لجعل زيارته سهلة ميسرة، ومرحبًا به في أي وقت.
وسُحِب جواز سفر صحبني ثمانية وعشرين عامًا، وكان مصدر اعتزاز بالنسبة إلي، ومنذ ذلك التاريخ شعرت بنوع من حاجز الغربة، ولم أزر المملكة إلا لأداء العمرة مرة أو مرتين، كان ذلك قد وقع بعد أن اقترحت الإدارة الأمريكيَّة في عهد بوش عليَّ أن أذهب إلى العراق مع الذاهبين من العراقيين، الذين دعوا الآخرين لاحتلال بلادهم، وتفكيك دولتهم، وغلبت عليهم عصبياتهم الخاصَّة، وطائفيتهم؛ فأسلموا بلادهم إلى التفكك المزري، والصراع الدامي الذي ما زالت تعيشه حتى اليوم.
لقد أعانني الله ورفضت عرض إدارة بوش في أعلى مستوياتها، والتي وعدتني لو استجبت بأعلى المناصب التي يسيطرون عليها في دولة العراق الحديثة المفككة، فاعتذرت لكبر السن والمرض، وعدم القدرة على ممارسة أي دور سياسي. وكم تمنيت لو أنَّ جواز سفري ذاك السعودي قد بقي في حوزتي؛ لأعود إلى المملكة، وأقضي ما بقي لي من حياة في أحد الحرمين، في مكة المكرمة، أو في المدينة المنورة. ولكن ما كل ما يتمنى المرء يدركه.
وإلى اللقاء مع جواز سفر آخر.