Menu
منهجية التعامل مع التراث الإسلامي - مراجعة لكتاب من أدب الاختلاف إلى نبذ الاختلاف - أُمْنِيّة أهلِ السجود([1]) - The future of Islam in America and west - جانب من جلسات فريق باحثي الأزهر للعمل على وضع منهجية مراجعة التراث - حوار حول الربيع العربي - الإسلام والمسلمون من وجهة نظر غربية - برنامج اخترنا لمكتبتك - معالم في المنهج القرآني - ومضات فكرية

المسئوليَّة (4) المسئوليَّة عن فعل الغير

أ.د/ طه جابر العلواني

إنَّ الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستهديه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا.

أمَّا بعد:

في نسق متصل من المحاورة، حول قاعدة المسئوليَّات الأخلاقيَّة ..

قال الطالب لأستاذه: قد تبيَّن من حديثك ــ أيُّها المربي الفاضل ــ أنَّ ها هنا حالتين نكون فيهما مسئولين عن فعل غيرنا، ونكون مؤاخذين معه بذنبه:

الحالة الأولى: أن يكون ذلك الغير، قد فعل فعلته امتثالًا لأمرنا، وخُضوعًا لسلطاننا، رغم علمه بسوء ما يصنع وقُبح ما يرتكب.

الحالة الثانية: أن يكون موقفنا منه ليس موقف أمر وإلزام، ولكنَّنا زيَّنا له السيئة حتى رآها حسنة، وروَّجنا له الباطل حتى ظنه حقًا، وكان في وسعه ــ لو انتفع بمداركه ومواهبه ــ أن يرى الحق حقًا فيتبعه، وأن يرى الباطل باطلًا فيجتنبه، ولكنَّه وثق الثقة العمياء بمن حوله، فجعل يرى بأعينهم، ويسمع بآذانهم، ويفكر بعقولهم، حتى وقع فريسة لخدعة الخادعين، وضلالة المضلين..

وقد تبين من حديثك ــ أيُّها المربي الفاضل ــ أنَّ مسئوليَّتنا في كلتا الحالتين عن سلوك هؤلاء الإمعات، الذين ائتمروا بأمرنا، أو خُدعوا باحتيالنا، إنَّ مسئوليَّتنا هذه لا تعفيهم من مسئوليَّتهم، ولا تخفف عنهم شيئًا من أوزارهم؟ كما أنَّ الذي يفعل الخير، استجابة لدعوتنا ويعتنق الحق اقتناعًا بحجتنا، يوزن عمله في كفة حسناتنا، من غير أن ننتقص شيئًا من أجره.. كل هذا قد حصلته ببيانك ــ أيُّها المربي الفاضل ــ وقد عقلته ووعيته..

والآن أستزيدك علمًا فأسألك: هل هناك حالات أُخر تنتشر فيها المسئوليَّة إلى مدى أبعد من هذا؟. أعني أنَّها تتعدى من الفاعل المباشر، إلى من لم يشاركه في عمله ولم يأمره به، ولم يزينه له؟.

قال المربي: نعم، إنَّ الذي لم تعرفه بعد في هذه القضيَّة، لهو أوسع نطاقًا مما عرفت، ولا أشك في أنَّه سيكون أشد غرابة في نظرك.. لقد كان عندك عجبًا ــ في بادئ الأمر ــ أن يكون الذي أمر بالفعل أو رغَّب فيه يُسأل عنه ويُجازى، كما يسأل ويجازى فاعله سواءً. ذلك على أنَّه ليس في الأمر من عجب؛ فإنَّ الذي يأمر بالفعل أو يُرغِّب فيه، قد تسبب فيه تسببًا مقصودًا، إذ كان حريصًا على صدوره من فاعله. وسعى لذلك سعيًا بقوله وفعله، ونيته وقصده.. فليت شعري، ماذا سيكون موقفك الآن لو عرفت أنَّنا قد نُسأل عن الفعل، يفعله غيرنا من تلقاء نفسه، دون أن نأمره به، أو نُحرضه عليه، أو نُرغبه فيه؟! بل دون علم منا ولا شعور بأنَّه فعله أو بأنَّه سيفعله، بل حتى لو فعله بعد موتنا، ولو بعد قرون من عصرنا؟!.

قال الطالب: إنَّه لعجيب حقًا أن نُسأل عن شيء لم نفعله، ولم نأمر أحدًا أن يفعله، ولم نُرد أن يفعله، بل لم يخطر ببالنا أنَّه سيفعله. أليست الأعمال بالنيات؟. فكيف نُسأل عن شيء لم تتناوله نيتنا؟! كيف نحاسب على شيء عمله غيرنا ونحن عنه غافلون؟!.

قال المربي: ألم تتدبر هذا التعبير القرآني الحكيم: ﴿.. وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ ..﴾ (يس:12)؟. ألا ترى كيف جمع إلى الفعل المباشر آثاره كلها، ولم يشترط فيها أن تكون إراديَّة، أو لا شعوريَّة؟. ذلك أنَّنا متى توجهت نيتنا إلى عملنا المباشر، ثم باشرناه عمدًا وقصدًا، ونحن عالمون بما فيه من البر أو الإثم، فقد تمت أركان مسئوليَّتنا، ولو لم نعرف مدى ما يتولد عنه من الأصداء والآثار، وما مقدار ما يترتب عليه من الأجزية والنتائج. ألا ترى أنَّ الله يرزق المتقي من حيث لا يحتسب، ويحبط عمل المسيئ من حيث لا يشعر؟ فكما أنَّنا نستحق هذه النتائج والأجزية الإلهيَّة وننالها من غير أن نتوقعها أو نشعر بها، كذلك نحمل تبعة النتائج والآثار الاجتماعيَّة التي تنشأُ عن عملنا، ولو لم نقصدها ولم نشعر بها.

قال الطالب: هلا ضربت لنا مثلًا من هذه الآثار الاجتماعيَّة، وتبعاتها الأخلاقيَّة التي تُحمل علينا، ولو لم نقصدها ولم نتوقعها؟.

قال المربي: اعلم يابني أنَّك لن تعمل عملًا من خير أو شر، في أقصى المشرق، ثم يسمع به أحد في أقصى المغرب، فيستحسنه ويُحاكيه.. ولن تقول مقالة، في رضوان الله أو في سخطه، فيرددها وينشرها غيرك في حياتك أو بعد موتك.. ولن تضع لبنة في أساس منشأة برّة أو فاجرة، فيجيئ آخرون من ورائك، فيتابعوا رفع البناء.. إلا كان لك أو عليك جزاء ما قلت وما فعلت، وجزاء ما قال الناس من بعدك وما فعلوا.. إلى يوم القيامة.

قال الطالب: ياللهول! إلى يوم القيامة؟.

 قال المربي: نعم.

قال الطالب: هل تجد لذلك شاهدًا في كتاب الله، أو في سنَّة رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم)؟.

قال المربي: بل فيها جميعها.. روى مسلم والنسائي عن جرير بن عبد الله ــ رضي الله عنه ــ قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): “من سن في الإسلام سنَّة حسنة فعُمل بها بعده؛ كُتب له مثل أجر من عمل بها ولا ينقصُ من أجورهم شيء. ومن سن في الإسلام سنَّة سيئة فعُمل بها بعده؛ كُتب عليه مثل وزر من عمل بها ولا ينقص من أوزارهم شيء”. وروى مالك والبخاري ومسلم وغيرهم، عن عبدالله بن مسعود ــ رضي الله عنه ــ قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : “ليس من نفس تُقتل ظلمًا إلا كان على ابن آدم الأول كِفل من دمها؛ لأنَّه أولُ من سن القتل” وأنت فاقرأ مصداق ذلك كله في كتاب الله تعالى: ﴿.. أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا ..﴾ (المائدة:32).

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

 

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين، والصلاة، والسلام على أشرف المرسلين، سيدنا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم).

أمَّا بعد:

إنَّ ما ذكرناه في الخطبة الأولى يبيِّن لنا عظم وخطورة مسئوليَّتنا عن أقوالنا وأفعالنا وحركاتنا وسكناتنا، وأنَّ هذه المسئوليَّة لا تنتهي إلا بعد يوم البعث والحشر والجزاء، أي بعد أن نحاسب عليها ونجازى، والحساب ويا ويل الناس من الحساب، حساب ليس بالسهل، ولا يتم على الفعل المجرد وحده، بل هو حساب يتناول الفعل وآثاره، والقول وما يترتب عليه، والرأي والخبر تذكره أو تنشره أو تكتبه فيأخذه الناس عنك؛ ولذلك فإنَّ العاقل ينبغي أن يحاسب نفسه قبل أن يحاسب، ويعلم أنَّه ما يفعل من فعل ولا يقول من قول ولا يطأ من أرض إلا حوسب، يكتب له عمل صالح فيما صلح، ويكتب عليه عمل سيئ فيما ساءت آثاره وما ترتب عليه؛ ولذلك فإنَّ الإنسان أحوج ما يكون إلى المراقبة الدائمة لنفسه، والمحاسبة المستمرة لها؛ لإيقافها عند حدودها، والحيلولة بينها وبين الوقوع في ارتكاب ما حرمه الله عليه، وما منعها منه.

اللهم اجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، اللهم اجعلنا ممن يحسنون الفعل والنية، ويصدقون فيها، ويهتدي الناس بآثار أفعالهم، وأقوالهم، وما يتركونه وراءهم، اللهم اهدنا فيمن هديت وعافنا فيمن عافيت وقنا واصرف عنا شر ما قضيت برحمتك يا أرحم الراحمين.

أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *