أ.د/ طه جابر العلواني
إنَّ الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستهديه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا.
أمَّا بعد:
فإنَّ خطبتنا لهذه الجمعة تتناول مفهوم الإكراه في القرآن الكريم، وتبيِّن متى يكون الإكراه ملجئًا، ومتى لا يكون كذلك، كما تبيِّن الآيات الكريمة دور الإكراه في سلب الإرادة والقدرة على الفعل، ودوره في التأثير على الإرادة فقط، وفرق كبير بين إكراه ملجئ بأن يمسك قاطع طريق أو محترف قتل بشخص في دور علوي ليلقي به على شخص في الأدنى أو على الأرض فيقتلهما أو يقتل أحدهما، فهذا النوع من الإكراه إكراه ملجئ، هو وحده الذي يعفي المكره من المسئوليَّة، أمَّا أنواع الإكراه الأخرى التي لا تبلغ هذا الحد فهو إكراه غير ملجئ، لا يرفع عن المكره المسئوليَّة والإثم، وهذا هو القرآن بين أيدينا يوضح لنا هذا الأمر بجلاء شديد، كعادة القرآن المجيد في كل ما تناوله، ويزيل عنه كل لبس أو غبش قد يأتي من أقوال البعض ومن اجتهاداتهم، ولما بلغ شيخنا هذا المستوى من مستويات المسئوليَّة ألا وهي مسئوليَّة المكره عن أفعاله قال تغمده الله بالرحمة:
مسئوليَّة الضعفاء والمستكبرين:
قال المربي لتلميذه وهو يحاوره في أنواع من المسئوليَّات الأدبيَّة:
– هل عرفت الآن يابني أنَّنا مسئولون عن فعل غيرنا، متى كان الغير قد عمل بأمرنا أو بايحائنا؟.
– قال الطالب: نعم. لقد عقلت هذا المثال.
– قال المربي: هذا هو الضَربُ الأول من مسئوليَّتنا عن فعل الغير.
– قال الطالب: أرجو ألا تتعجل بالانتقال إلى نوع آخر حتى أُكاشفك بما يجول في خاطري عن هذا النوع الأول؛ لقد كنت أظن من قبل أنَّ الفاعل المباشر لإثم هو الذي يجب أن يبوءَ وحده بالإثم كاملًا، وألا يُسأل معه أحد غيره. ولكني حين سمعت مقالة القرآن الحكيم في شأن دعاة السوء: ﴿وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَّعَ أَثْقَالِهِمْ ..﴾(العنكبوت:13)، تحوَّل موقفي من النقيض إلى النقيض، فأصبحت الآن أرى أنَّ المسئوليَّة هنا على الآمر، لا على المباشر، وعلى المتبوع لا على التابع. أليس من العدل أنَّ المتبوعين ذوي النفوذ والسلطان هم الذين يحملون وزرهم ووزر أتباعهم كاملين؟.
– أوليس من القسوة أن نُحمِّل أتباعهم تبعة ما فعلوه امتثالًا لأمر القاهر؟. نعم. ماذنب هؤلاء الضعفاء الذين لم يقترفوا الإثم عن طوع ورغبة واختيار ولكن عن إكراه وإلجاء واضطرار؟. أليس كتاب الله يقول: ﴿.. إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ ..﴾(النحل:106)، ﴿.. إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ ..﴾(الأنعام:119).
– قال المربي: حذار يابني أن تسمي أمر الرئيس لمرؤوسيه إكراهًا يُخرج المرؤوس عن إرادة نفسه ويُبرئه من تبعة فعله. فتلك دعوى لا تقرّها دساتير الأرض، ودستور السماء. أمَّا دساتير الأرض، فإنَّها تعلن في صراحة لا لبس فيها، أنَّ أوامر الرؤساء -كتابيَّة كانت أو شفاهيَّة- لا تُعفي المرؤوسين من مسئوليَّتهم عن مخالفة القانون. وأمَّا دستور السماء، فإنَّه أبطل كل حيلة حاول بها المستضعفون أن يتنصلوا من ذنبهم بضعفهم، ودحض كل حجة احتجوا بها لإلقاء التبعة كلها على كاهل كبرائهم: ﴿.. وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ * قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءكُم بَلْ كُنتُم مُّجْرِمِينَ * وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَن نَّكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ (سبأ:31-33)، ﴿وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاء لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِّنَ النَّارِ * قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ﴾ (غافر:47-48)، ﴿يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا * وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا﴾ (الأحزاب:66-67)، قال الحكم العدل: ﴿وَلَن يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذ ظَّلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ﴾ (الزخرف:39). هكذا ترى يابني أنَّ الاعتذار بطاعة الرؤساء، وامتثال أمر الكبراء، فيما لا يرضي ربنا الأعلى اعتذار بما لا يُقبل، وأنَّ المستعتب به غير معتب.
– قال الطالب: ولم ذلك؟. أليس هذا ضربًا من الإكراه؟.
– قال المربي: يابني إنَّ قوى الأرض كلها لو تظاهرت علينا بأمرها وإغرائها وإنذارها وتهديدها، لتدعونا إلى خير أو شر، ما كان ذلك كله ليسلبنا إرادتنا، أو يلقي عنا تَبِعَاتنا، مادام فينا عقل يفكر ويوازن ويحكم، ومادام لنا سلطان على جوارحنا نصرّفها نحن باختيارنا، وليست هي التي تتحرك بنفسها حركة آلية، أو يحركها غيرنا حركة قسرية. فما دمنا نستمتع بهذا القسط من الوعي والضبط، فنحن مسئولون عن عقائدنا وعن أعمالنا على الرغم من كل الأوامر والنواهي التي تحاول أن تُغير وجهتنا.. استمع إن شئت إلى هذا الاعتراف الصريح الذي سجله على نفسه أخطر عنصر من عناصر الشر في العالم -الشيطان الرجيم: ﴿وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم ..﴾(إبراهيم:22)، يابني. إنَّ الذي يسميه الناس إكراهًا في هذا الباب، ليس في حقيقته بإكراه إنَّما هو ضرب من الضغط المادي أو الأدبي، لا يسلب الإرادة ولكنَّه قد يضعفها قليلًا أو كثيرًا. نعم. إذا بلغ هذا الضغط حدًا تكاد تنعدم معه قوة المقاومة، كان لنا حينئذ أن نسميه إكراهًا حكميًّا، أو شبه إكراه، وكان لنا أن نجعله رخصة وعذرًا، لا لأرباب العزائم القويَّة، ولكن للضعفاء، بصفة استثنائيَّة، غير أنَّ هذا الحد الذي يصح أن نسميه إكراهًا حكميًا يتفاوت في نفسه تفاوتًا كبيرًا تبعًا لاختلاف الوسائل التي تستخدم فيه، واختلاف النفوس التي يقع عليها، واختلاف الأغراض التي يُتخذ من أجلها، فرب أمر واحد يُعد إكراهًا في حال، ولا يُعد إكراهًا في حال أخرى. وليس المجال الآن مجال البسط والتفصيل ولكني أُوجه نظرك إلى حقيقة قد يغفل الناس عنها، وهي أنَّ ها هنا حرماتٌ مقدسة قد رفعتها الشريعة إلى الأُفق الأعلى، فلم تُرخص لقوي ولا لضعيف أن ينتهكها، ولو في أشد حالات الإكراه والاضطرار .. دونك مثالًا من هذه المقدسات: هذا رجل قاطع طريق قد أصْلَتَ سيفه على رأسك، وجعل يأمرك أن تقتل فلانًا هذا البريء، الذي تعرف أنت براءته، وجعل ينذرك ويهددك بأنَّك إن لم تقتله أو لم تحكم بقتله أجهز على حياتك، ورأيت في عينيه الجد والعزم المصمم.. أفتقتل هذه النفس البريئة خوفًا على نفسك؟. كلا. فتلك بإجماع المسلمين جريمة لا تغتفر. ولأن تُقتل مظلومًا خيرٌ من أن تقتِل بريئًا. ولكن تدافع هذا الصائل عن نفسك. فإن دفع فقد أحييت نفسين، وإن قُتلت أنت فقد أحييت نفسًا وادخرت لنفسك جزاء الشهداء.
أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة، والسلام على أشرف المرسلين، سيدنا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم).
أمَّا بعد:
فقد تبيَّن لنا من آيات الكتاب الكريم البينات والمبينات حقيقة الإكراه، ومستوياته، فلا يلقين أحد بذنوبه على أحد آخر، ولا يظنن أمرؤ بأنَّ أحدًا سوف يحمل عنه وزره، وانحرافه، فهو وحده المسئول عن كل ما فعل، أو فعل غيره نتيجة إكراهٍ ملجئ منه، فهذا القرآن بين أيدينا يعلمنا كل ما نحن بحاجة إلى العلم به، وإلى معرفته، فهل نحن عائدون إليه؛ لنستعيد رؤيتنا وعقولنا ومنهجنا وشريعتنا ولا نتحول إلى أولئك الذين ﴿.. لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾ (الأعراف:179).
اللهم إنَّا نعوذ بك أن نضل أو نضل، أو نذل أو نذل، أو نجهل أو يجهل علينا، ﴿.. رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَآ أَنتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾ (البقرة:286)، ﴿رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ * رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ * رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَادَ﴾ (آل عمران:192-194).
أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم.