Menu
منهجية التعامل مع التراث الإسلامي - مراجعة لكتاب من أدب الاختلاف إلى نبذ الاختلاف - أُمْنِيّة أهلِ السجود([1]) - The future of Islam in America and west - جانب من جلسات فريق باحثي الأزهر للعمل على وضع منهجية مراجعة التراث - حوار حول الربيع العربي - الإسلام والمسلمون من وجهة نظر غربية - برنامج اخترنا لمكتبتك - معالم في المنهج القرآني - ومضات فكرية

المسئوليَّة

أ.د/ طه جابر العلواني

إنَّ الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستهديه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا.

أما بعد:

فيما كنت أعد خطبة الجمعة، وأبحث لها عن أنسب المواضيع في ظل الظروف الراهنة التي تعيشها الأمَّة في مختلف ديارها؛ وجدت مجموعة من كلمات شيخنا الراحل الدكتور محمد عبد الله دراز، الذي فقدناه في وقت مبكر، كانت الأمَّة فيه أحوج ما تكون إلى أمثاله، ومن أراد أن يعرف من هو الدكتور محمد عبد الله دراز فإنَّه في حاجة إلى أن يضع شخصيتين علميتين معًا ليكون الناتج محمد عبد الله دراز، هما: الشيخ الإمام محمد متولي الشعراوي، وفضيلة الإمام الغزالي -يرحمهما الله تعالى.

فالدكتور دراز شخصيَّة جمع لها العلم والأدب والفكر والخلق والرؤية الحضاريَّة والفقه في الدين والرشد في الرأي؛ مما يجعله من أقدر من عرفنا في سنين الطلب الأولى على تقديم أفضل النماذج الإسلاميَّة، وكان يعجبني كثيرًا  القراءة له والاستماع إلى أحاديثه ومحاضراته، وحين توفي -يرحمه الله- في الباكستان وجيء بنعشه خرج الأزهر كله شيوخًا وطلابًا وراء جنازته، كان آخر الجنازة عند باب الجامع الأزهر أمَّا أولها فقد كان في الدرَّاسة وقرافاتها، لو ألقيت حبات أرز لوقعت فوق عمائم ومظلات المشايخ.

وكل الناس والأزهريُّون في مقدمتهم شعروا بالفراغ الذي تركه الراحل العظيم، وفي كل يوم يكتشف الباحث في تراث دراز جديدًا أحوج ما تكون الأمَّة إليه، وقد وجدت هذه الأحاديث التي كانت تذاع له من محطة إذاعة القرآن الكريم في منتصف القرن الماضي؛ فوددت أن تكون بين أيدي الخطباء بمعانيها وبعض ألفاظها؛ لتكون خطب جمعة تؤكد على أهميَّة وضرورة الموضوعات المثارة، سائلًا العلي القدير أن ينفع الجميع بها، وسنقدمها تباعًا -إن شاء الله- واحدة بعد الأخرى دون أن نتصرف كثيرًا بها، إذ إنَّ لغة الشيخ وأدبه لا ينقصهما ما يجعلنا نتدخل بأكثر من كلمات للربط بين فواصل الدرس، والشيخ الراحل -تغمده الله برحمته- جعل كلماته تلك بشكل حوار بينه وبين من يتعلمون على يديه، فهو حوار بين المربي ومن يربيه، والأستاذ ومن يتتلمذ عليه، والمعلم ومن يتعلم منه، وبالتالي فإنَّ ذلك سيكون مذكرًا للخطيب بدوره، وبأهميَّة الخطبة التي يجب أن تكون تعليمًا وتربية، وتأديبًا وتهذيبًا للمجتمع، وخطابًا يتابع أزماته ومشكلاته، ويعمل على تقديم الحلول لها.

الخطبة الأولى كانت عن “مسئوليَّة التابع والمتبوع” وكما نعلم كلنا تابع أو متبوع، والمتبوع لم يصبح متبوعًا فجأة بل مر بمرحلة كان فيها تابعًا، فما هي المسئوليَّة التي تربط بين التابع والمتبوع؟ وكيف تكون هذه المسئوليَّة أمانة بين يدي المتبوع؛ ليتصرف أو يقل أو يوجه بكل دقة وأمانة، وحذر وفطنة، وتقوى من الله، الذي عليه أن يراقبه في السر والعلن؟ يقول شيخنا -يرحمه الله:

“قال المربي: هل تعرف يا بني أنَّ كل امرئ منَّا مسئول إلى حد بعيد، لا عن عمله فحسب، ولكن عن عمل غيره كذلك؟.

قال الطالب: عن شريعة الحق وحكم الإسلام تتحدث؟ أم عن حُكم الجاهليَّة الأولى، الذي يؤخذ فيه الجار بجرم جاره؟.

قال المربي: بل عن حكم الإسلام، وفي صميم القرآن!.

قال الطالب: كيف هذا، ونحن نقرأ ونسمع كل يوم أنَّ المسئوليَّة في الإسلام محدودة، وأنَّها أبدًا مسئوليَّة فرديَّة، لا تتجاوز العامل إلى غيره؟ وكيف والقرآن نفسه يقول: ﴿.. لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ .. (النساء:84)، ﴿.. وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى .. (الأنعام:164)، ﴿لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ … (البقرة:286)، ﴿.. لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ .. (الشورى:15)، ﴿قُل لَّا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (سبأ:25)، ﴿.. مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ .. (الأنعام:52)، ﴿.. فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُم مَّا حُمِّلْتُمْ .. (النور:54)، إلى نصوص أخرى كثيرة مشهورة.

قال المربي: يا بني إنَّ هذا كله لا يضيرنا .. إنَّهما حقيقتان لا ينقض بعضهما بعضًا، ولكن تكمل أحداهما الأخرى. وذلك أنَّنا لن نحاسب على ما يفعله غيرنا، إلا إذا كان لنا فيه مدخل ما، من قريب أو بعيد.

قال الطالب: هل تقصد من ذلك، أنَّه إذا كان عمل الغير سببًا عن عملنا، نكون نحن مسئولين عن فعلنا الذي كان سببًا في ذلك العمل؟ إن كان هذا هو مغزى القضية فنحن أبدًا مسئولون عن عمل واحد لا زائد.

قال المربي: ليس ذلك فحسب، والتعبيران ليسا سواءً، إنَّ ها هنا بُعدًا شاسعًا بين أن تحاسب على شيء واحد هو فعلك، وبين أن تحاسب على شيئين اثنين، على فعلك الذي كان سببًا في فعل غيرك، وعلى الفعل الذي صدر عن الغير، من جراء فعلك. يا بني إنَّ عملك المباشر حركة معينة، لها صورة محصورة محددة بنطاق زمانها ومكانها وملابساتها، ومهما تتكرر هذه الصورة فإنَّها لن تجاوز مجال حياتك .. أمَّا عمل غيرك فإنَّه يمتد طولًا وعرضًا حتى يستغرق الأشخاص، ويستوعب الأجيال، وقد يدوم ما دام الناس يمشون على الأرض .. فإن كنت تظن أنَّه لا يحسب عليك إلا عملك في صورته الضيقة المحددة، فما قدرت عدالة الله حق قدرها، ولا عرفت دقة موازينها .. إنَّ الله لا يقيس الأعمال بمقياس مادتها وحدها، ولا يحدد مدتها بساعة مباشرة، ولكنَّه يقيس إلى ذلك صداها وإشعاعها، ومدى تكررها وتجدُّد أمثالها. ألا تستمع إلى قول الله (عز وجل): ﴿.. وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ .. (يس:12)؟ فهذا إرشاد بيِّن إلى أنَّ مسئوليَّتنا لا تقف عند حد أعمالنا المباشرة، بل تتجاوزها إلى آماد بعيدة، حتى تتناول كل ذيولها وأعقابها، وكل أصدائها وآثارها، في حياتنا وبعد موتنا .. يا ليتنا يا بني نتدبر هذا حق تدبره، قبل أن نقدم على أعمالنا! إذًا لكان لنا منه نعم النازع إلى فعل الخير ولو يسيرًا، فلا تحقر منه مثقال ذرة، فرُبَّ حسنة أو سيئة كانت صغيرة في نفسها ولكنَّها كبرت وعظمت بما كان لها من أثر وما نجم عنها من نفع أو ضرر .. ألا ترى أن ترويج قطعة صغيرة جدًا من النقد الزائف قد يكون أمرًا هيِّنًا في نفسه، ولكنَّه إذا بقي جرم هذه الجريمة واستمر تداولها بين الناس كانت جملة الصفقات الباطلة التي عقدت عليها وجملة السحت الذي أكل بها أشنع وأفظع من سرقة قناطير مقنطرة من الذهب والفضة؟.

قال الطالب: هذا حق، ولقد كنت أفهم من كلمة الكتاب العزيز: ﴿.. وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ .. (يس:12) أنَّ الآثار التي تكتب في صحائف أعمالنا إنَّما هي الآثار التي ينطبق عليها هذا المثل، أعني الآثار التي تكون امتدادًا حقيقيًّا لأعمالنا، والتي ينطبق عليها هذا المثل، أعني الآثار التي تكون امتدادًا حقيقيًّا لأعمالنا والتي تبقى فيها مادة صنعتنا، من علوم نافعة نخلفها وراءنا، وصدقات جارية نورثها لمن بعدنا، ومنشآت صالحة يسري نفعها ويمتد بها مادامت قائمة، وكذلك في الجانب المقابل؛ ما كنت أعد إلا أثرًا يبقى به جرم الجريمة ماثلًا في نقد زائف أو بضاعة مغشوشة أو اختراع مدمر، أو ما إلى ذلك .. فهذا كله وأمثاله جدير بأن يعد من عمل العامل نفسه، وليس بدعًا أن يضاعف له أجره أو وزره، مضافًا إلى أجزاء عملنا، فهل نجد لذلك شاهدًا في القرآن الكريم؟.

قال المربي: نعم إنَّنا نجد له شواهد كثيرة أكثر مما قد يظن وعلى نطاق فسيح أوسع مما قد يحتسب.

قال الطالب: هل لك في أن تعرض علينا نماذج من ذلك؟.

قال المربي: سأفعل -إن شاء الله! ولأعجل لك الآن بهذا المثال الواضح القريب: اقرأ إن شئت قول الله تعالى: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُم بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُم مِّن شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَّعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ (العنكبوت:12-13) أتدري ما الأثقال التي يحملونها مع أثقالهم؟ إنَّها مفسرة في الآية الأخرى: ﴿لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ (النحل:25) فهم يحملون أوزارهم كاملة من أعمالهم المباشرة، ثم يحملون فوق ذلك نصيبًا من أوزار أتباعهم، لا على معنى أنَّهم يخففون عن الأتباع نصيبًا من جزائهم، فالآية صريحة في عكس ذلك، إذ تقول: ﴿.. وَمَا هُم بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُم مِّن شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (العنكبوت:12) وإنَّما المعنى أن المتبوعين تجتمع لهم عقوبتان: عقوبة على فعلهم، وعقوبة على فعل أتباعهم الذين كانوا هم سببًا فيه، بأمرهم ونهيهم أو بإيحائهم وإغرائهم. وهكذا كل دعاة السوء ينالهم كفل من وزر الفعل الذي أغروا الناس به وحرضوهم عليه، كما أنَّ دعاة الخير ينالون نصيبًا من أجر البر الذي رغبوا فيه ودعوا إليه، فإنَّ الدال على الخير كفاعله.

جعلنا الله وإياك هادين مهتدين، غير ضالين ولا مضلين .. آمين.”

أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم.

الخطبة الثانية:

 الحمد لله رب العالمين، والصلاة، والسلام على أشرف المرسلين، سيدنا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم).

أما بعد:

هكذا تبيَّنت لنا العلاقة بين التابع والمتبوع، وكما قلت: إنَّنا جميعًا ما بين تابع أو متبوع، فالأمر يهمنا دون استثناء، فالمتبوع أولًا مسئول عن التابع، لا يضله ولا يغرر به، ولا ينحرف به عن سواء السبيل، ولا يخدعه، ولا يغشه، ولا يقدم له إلا ما أمر الله به، صافيًا نقيًا، من مصادره وأدلته، فلو تعرض ذلك التابع لغش أو خداع أو انحراف فيما تعلمه من المتبوع فذلك يعني أنَّ المتبوع سوف يحمل وزره ووزرًا مع وزره، ويبوء بإثم نفسه وإثم من تبعه، ويحاسبه الله على ذلك وآثاره.

فلأعمالنا آثار تبقى في الواقع وتمتد في التاريخ، وتؤثر في البيئة، فمالم يختر الإنسان العمل الصالح ويتجنب العمل غير الصالح فإنَّ النتيجة خسار وبوار على التابع والمتبوع، بل وعلى المجتمع والبيئة، وعلى الأجيال القادمة؛ ولذلك فإنَّ الآثار وردت في بيان مسئوليَّة المتبوعين الخطيرة عن أعمال التابعين وأفعالهم وتصرفاتهم، وما أكثر مشاهد القيامة في القرآن التي تناولت تلك المواقف، فقد يقول المتبوعون -وهم في نشوة الالتفاف حولهم: اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم، فإذا جاء يوم القيامة ووجدوا جبال الآثام التي سيؤمرون بحملها وما هم بحاملين لشيء منها؛ فلا يجدون إلا أن يقولوا لأولئك التابعين: ﴿.. إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ (غافر:48).

فليتق الله الذين يتحملون أيَّة مسئوليَّات عن سواهم، بما في ذلك مسئوليَّة رب الأسرة عن الأسرة، وربة البيت عن البيت، والمعلم، والمدرسة، والبائع، والمشتري، والصانع، والعامل، وصولًا إلى المستويات الأعلى فالأعلى، التي ستخضع كلها إلى الحساب والسؤال ممن لا تخفى عليه خافية، فلندرب أنفسنا على معرفة مسئوليَّاتنا، وضرورة قيام كل منا بمسئوليَّته، والحذر من الخلط والتداخل بين الأمور، بحيث ينسي بعضها بعضًا، وقد شاءت إرادة الله أن يكون بناء الأمم والمجتمعات والحضارات مسئوليَّة جماعيَّة في هذه الحياة الدنيا، والجزاء عنها من ثواب أو عقاب يكون فرديًّا، فيحاسب كل امرئ على ما فعل، وآثار ما فعل، أو قال، أو وجه، أو دعى، سائلين العلي القدير أن يعيننا على الوعي بمسئوليَّاتنا، وقيام كل منا بما ابتلاه به ربه من هذه المسئوليَّات.

 أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *