أ.د: طه جابر العلواني
بين آخر الدنيا وأوائل الآخرة، قبل خمسين عامًا أو تزيد لم أكن أفكر أن أدفن في غير العراق، فمن تربتها خلقت وإلى تربتها أعود، لكن بعد أن طوَّحت بي السنين يمينًا ويسارًا شمالًا وجنوبًا؛ فكرت في مكة والمدينة، وتمنيت أن يضم رفاتي تربة أي منهما، خاصَّة البقيع بجوار قبر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). وحين قضيت فترة جاوزت العشر سنوات في المملكة العربيَّة السعوديَّة تمنيت أن أدفن هناك، ثم شاء الله لي أن أسكن الولايات المتحدة الأمريكيَّة، وثارت عندي إشكاليَّة فقهيَّة حول الإقامة الدائمة في غير بلاد المسلمين أثارها حديث: “أنا بريء من كل مسلم مع مشرك لا تراءى ناراهما”؛ فناقشني طلابي بهذا الحديث؛ يريدون إثنائي عن السفر والسكنى في الولايات المتحدة، وثار في حينها نقاش طويل عريض بيني وبين العديد من طلابي هناك حول هذا الحديث ودلالاته، وهل يدل على تحريم الإقامة في غير بلاد المسلمين، أو لا يدل على ذلك؟.
ولعلي أجد وقتًا ألخص فيه المهم من هذه الحوارات؛ لإفادة المطالعين، ولمـَّا حسمنا الأمر، وغادرت إلى هناك، واستقررت في تلك البلاد؛ ثارت مشكلة الدفن. وللمسلمين هناك مذاهب عديدة في دفن موتاهم، ومع ذلك فقد اشتريت قبرين لي ولزوجتي في أول مقبرة إسلاميَّة خصصت للمسلمين في مدينة هيرندن في ﭬـرجينيا حيث كنت أسكن، وقد استقر في أحد هذين القبرين جسد زوجتي الدكتورة منى -تغمدها الله برحمته- بعد أن وافتها المنية هناك، وتقرر دفنها حيث توفيت، وبقي قبر آخر شاغر، وأذكر أنَّ أخي الدكتور جمال البرزنجي قد طلب أن يكون قبرانا هو وأنا متجاورين، وافقته على ذلك، على أن يجد قبرًا ثالثًا جوار القبرين الذين حجزتهما لي ولزوجتي، ولا أدري ما إذا كان ما يزال حريصًا على ذلك أو أنَّه بعد دفن والدته -يرحمها الله- هناك صار جوار أمَّه أحب إليه من جواري لو دفنت هناك؟ نسأل الله له ولنا الرحمة والمغفرة، والعفو والعافية، نعم الأخ هو في الدنيا، ونعم رفيق الدرب إلى الآخرة وفيها، وأسأل الله (تبارك وتعالى) أن يغفر لي وله، ويعافينا ويعفو عنَّا جميعًا.
لقد جرني هذا الأمر إلى دراسة أدبيَّة في الذين نعوا أنفسهم قبل وفاتهم؛ فوجدت جانبًا من الشعر العربي لا يستهان به قد قاله أدباء وشعراء فحول في نعي أنفسهم ورثائها قبل الموت، وهم يشعرون باقترابه منهم، وردت فيه حكم كثيرة، منها: القصيدة الطويلة التي قالها رجل كان قد تشبب[1] بمرأة رجل آخر، فاختصما وأفلتت الحكمة من عقل الشاعر فقتل غريمه في هذه الخصومة، حاول معاوية بن أبي سفيان أن يقنع ورثة القتيل بالدية، ووعدهم بجزيل العطاء؛ فرفضوا إلا القصاص. وقيل بأنَّ ولي الدم هو الابن الوحيد الذي أنجبه القتيل، فتقرر انتظاره حتى بلغ سن الرشد وخُيِّر بين الدية والقصاص، وكان ذلك زمن عبد الملك بن مروان -على ما أذكر- فأصر الولد على القصاص ورفض الدية، فلم يجد الحاكم بدًا من إنفاذ القصاص الشرعي في صاحبنا، فقال قصيدة طويلة حين أبلغوه أنَّه سيعدم في اليوم التالي، وهو مختلف في اسمه على أقاويل منها: هدبة بن الهيثم العدوي:
ألاَ عَلِّلاني قبلَ صدحِ النوائح … وقبلَ ارتقاءِ النَّفْسِ فوقَ الجَوانحِ
وَقَبلَ غَدٍ يَا لَهفَ نفسي من غدٍ … إذا راح أصحابي ولستُ برائح
إذا راحَ أصحابي تفيضُ دموعهم … وغودرتُ في لحدٍ عليَّ صفائحي
يقولونَ هل أصلحتُمو لأخيكمو … وما اللحدُ في الأرض الفضاء بصالحِ
وأذكر أنَّني قرأت أحاديث كثيرة عن بيان أنَّ القبر نعمة، فقد يأتي على الناس زمان يباع القبر فيه بالوصيف، أي بالبيت الكبير، لرخص البيوت وغلاء القبور، وكنت استمع قبل خمسة يونية 1967 لمسلسل إسرائيلي تذيعه محطة إسرائيل تحت عنوان موتى بلا قبور، ولم أفهم مغزى القصة ولا هدفها إلى أن قامت حرب الخامس من يونيه 1967 حين قيل لموشي ديان: خطتك في 1967 مماثلة لكثير من أجزاء خطة 1959، فقال متضاحكًا: بل هي نفسها، لم تعدَّل فيها إلا التواريخ والساعات وبعض الاسماء، قيل له: وكيف تضمن المباغتة أو كيف ضمنتها، والخطة كما تقول متاحة ومنشورة، فقال: اعتمدت على أنَّ “العرب لا يقرأون”، قيل له: وهل كان العرب يعلمون أنَّ الحرب كانت ستقوم جديًّا بينكم وبينهم في الخامس من يونية؟ قال: كانت هناك رسالة أخرى بثها راديو إسرائيل بالتفاهم مع المخابرات الإسرائيليَّة وكانت مسلسلًا روائيًّا عنوانه: “موتى بلا قبور”، والتسمية كما ترى -يقول موشي للمراسل- جزء من خيال عسكري يتخيَّل انتصار إسرائيل على أعدائها وأنَّهم لن يستطيعوا أن يجدوا لأنفسهم قبورًا يدفنون فيها قتلاهم، مشيرين إلى ما كنا نتوقعه في تلك الحرب التي عاجلتهم، وجعلت الجيوش المشتركة في تلك الحرب تترك قتلاها كما تركت كثيرًا من الأحياء الذين أسرت قوات الدفاع الإسرائيليَّة بعضهم وقتلت البعض الآخر، آنذاك فهمت ذلك المسلسل اللعين، والعقليَّات الخبيثة التي صاغته بتلك الدقة الأدبيَّة قبل وقوع الحرب.
على كل حال، لا يملك المراقب وهو ينظر في أشلاء المسلمين في مدينة الفلوجة وهي مدينتي التي بها ولدت والتي كنت أطمع أن يضم رفاتي ترابها أرى الأشلاء على الشوارع، هذه المرة ليس بأيدي قوات التحالف التي قادها بوش، ولكن بأيدي حزب الدعوة وأنصاره. وللذين لا يعرفون حزب الدعوة قد يكون من المفيد أن يعرفوا شيئًا عنه: إنَّه حزب أسَّسه الشهيد الإمام محمد باقر الصدر عام 1957، عندما رأى وبعض تلامذته وحوارييه أنَّ الشباب الشيعي المتعلم حين يرغب أن يكون إسلاميًّا لا يجد أمامه إلا تنظيم الإخوان المسلمين فينخرط في صفوفه، ويتحوَّل إلى سني، ويغلب أن يكون سلفيًّا، أو وهابيًّا كما يسميه النجفيون، وفي الخمسينيَّات تحوَّل كثير من الشباب الشيعي الإسلامي الاتجاه ليكون جزءً من حركة الإخوان المسلمين أو جماعتهم في العراق، فأسس الشهيد الصدر من خلال مدرسته وحوزته تنظيمًا أطلق عليه حزب الدعوة الإسلاميَّة فصار محضن يضم الشباب الشيعي الراغب بأن يكون جزءً من الاتجاهات الإسلاميَّة، وهكذا بدأ الحزب في نشأته: قرآنيًّا في توجهه، صدريًّا في قيادته، نجفيًّا في مولده. لم يختلف عن جماعة الإخوان إلا أنَّ مراجعه الفكريَّة مراجع شيعيَّة ومراجع الإخوان سنيَّة.
فوجئت الشعوب العربيَّة بحزب الدعوة يتصدر قيادة فصائل شباب الإسلاميين الشيعة، ويصبح الواجهة الوحيدة للتعبير عنهم، فشارك في محاولات الإعداد للإطاحة بصدام بدءًا بمؤتمر صلاح الدين مرورًا بمؤتمر لندن وصولًا إلى ترأس إبراهيم الجعفري وهو أحد قادة حزب الدعوة لمجلس الحكم، في حين أنَّ النضال الشيعي في فترة حكم البكر وصدام برزت فيه أسرة الحكيم أكثر من أيَّة جهة شيعيَّة أخرى، لكن آل الحكيم فقدوا ركنهم الركين باستشهاد السيد محمد باقر الحكيم، فإذا بحزب الدعوة يتصدر المشهد ويصبح لاعبًا رئيسيًّا في قيادة البيت الشيعي كما يحب البعض أن يطلقوا عليه.
لقد أخطأ الأمريكان حين قاسوا عراق ما بعد ثورة العشرين على عراق 2003، فإذا كانت بريطانيا في نظر أمريكا قد أخطأت بتسليم حكم العراق بعد نجاح ثورة العشرين إلى قيادات سنيَّة لا لأنَّها سنيَّة، بل لأنَّها حاربت الدولة العثمانيَّة وشاركت في إسقاطها، فكافأتها بريطانيا على خدماتها، أن اختارت القيادة التي تعينها في الهيمنة على أوضاع العراق وتطويرها إلى عبد الرحمن النقيب، وإلى نوري السعيد، ومجموعة العسكريين الذين خدموا في الجيش العثماني ثم انقلبوا عليه لصالح التعاون مع بريطانيا، وكان تعاونهم المؤهل الأساس لتقريبهم من بريطانيا ومن الجوائز البريطانيَّة آنذاك؛ فلم يكن هناك أي مسوغ لأمريكا عدى الفوضى الخلاقة، وضمان أمن إسرائيل؛ لتسليم الحكم إلى المجموعة التي تسلمته بتلك الطريقة التي لم تخدم العراق ولم تخدم من الأهداف الأمريكيَّة إلا إحداث الفوضى الخلاقة، وعمَّقت الفروق بين مكونات الشعب العراقي ووضعت المجتمع العراقي على طريق التمزق والتفتت، وأهم مستفيد كان من ذلك التغيير الفوضى الخلاقة، والأمن الإسرائيلي، وعودة إيران إلى العمل شرطيًا في المنطقة، وها هي إيران قد بدأت عمليَّات استدراجها بمثل الشكل الذي استدرجت فيه قيادة صدام للتشتت والتمزق ثم الانقلاب والاستبدال، فإيران شريكة حاليًا في حربين إقليميتين وهي مرشحة للاشتراك بثالثة ورابعة ما لم يفتح القادة الإيرانيون عقولهم وبصائرهم إلى الدروس التي فيها الكثير من العبر والفوائد لمن يريد أن يتعظ، وإلا فإنَّه هناك موتى بلا قبور كثيرين، سوف يسقطون -لا سمح الله- نتيجة عمليَّات الاستدراج المتصلة من الآخرين والاستحمار والاستغفال المتصلة من المسلمين.
أمَّا موضوع دفني أنا فقد اخترت مصر وتربتها على العراق وتربته -إذا شاء الله لي الموت فيها- نسأل الله (جل شأنه) أن يحسن خاتمتنا في الأمور كلها، ويغفر لنا ويرحمنا، ويجعل آخرتنا خير من دنيانا، إنَّه سميع مجيب.
والله أعلم.
[1] أي تغزل بها ووصف جمالها.