أ:د/ طه جابر العلواني
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين، وعلى آله وصحبه ومن تبعه واهتدى بهديه إلى يوم الدين، ثم أمَّا بعد:
تاريخ مولده (صلى الله عليه وآله وسلم)
لقد ثار جدل حول تحديد تاريخ مولده (صلى الله عليه وآله وسلم) بين المؤرخين، ورواة الحديث، وأصحاب الأيام، فقد أخرج أحمد وغيره عن ابن عباس (رضي الله عنهما) أنَّه قال: “ولد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يوم الاثنين، واستنبي يوم الاثنين، وخرج مهاجرًا يوم الاثنين، وقدم المدينة يوم الاثنين، وتوفي (صلى الله عليه وآله وسلم) يوم الاثنين”، وقد اتفق جمهرة النقلة على أنَّ مولده كان عام الفيل، وأنَّه كان يوم الاثنين، وأنَّ شهر مولده هو شهر ربيع الأول، فيدور الخلاف المعتد به في تعيين اليوم من شهر ربيع الأول، أهو عند انقضاء اليوم الثامن أم العاشر أم الثاني عشر؟ فلا يعتدون برواية تقدم مولده (عليه السلام) على تلك الأيام ولا برواية تأخره عنها؛ لعدم استنادهما على شيء يلتفت إليه.
والرأي الراجح هو: اليوم التاسع، عند انقضاء تلك الأيام الثمانية، وذلك بعد تحقيق رياضي لا يتخلف، بمعرفة الرياضي المشهور العلامة محمود باشا الفلكي المصري، في رسالة باللغة الفرنسية في تقويم العرب قبل الإسلام، وقد ابتدأ في تحقيقه من يوم كسوف الشمس عند وفاة إبراهيم بن محمد (عليه الصلاة والسلام) في السنة العاشرة من الهجرة والنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في سن ثلاث وستين سنة كما في صحيح البخاري، وعين أنَّ الكسوف في تلك السنة كان في سلخ شوال، واستمر على تتبعه الرجعي إلى أن وصل إلى نتيجة أنَّه (صلى الله عليه وآله وسلم) يلزم أن يكون مولودًا في اليوم التاسع من شهر ربيع الأول؛ لأنَّ يوم الاثنين الذي كانوا اتفقوا عليه هو ذلك اليوم من الشهر المذكور عام الفيل الموافق 20 أبريل 571م، وأجاد البحث في تحديد يوم ولادته (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد الاستعراض الشامل لأقوال الفلكيين من الشرق والغرب.
ومبتكر الاحتفال المبالغ فيه بمولد حضرة المصطفى (صلوات الله وسلامه عليه) هو الملك المعظم مظفر الدين كوكبوري “الذئب الأزرق” التركماني صاحب إربل، ووصف ابن خالكان احتفاله وسعة أعطياته ونفقاته، وذكر أنَّه كان يحتفل بالمولد الشريف في الليلة الثامنة من شهر ربيع الأول في عام، وفي الليلة الثانية عشرة منه في عام آخر عملًا بالروايتين.[1]
حكم الاحتفال بالمولد النبوي
فإنَّه قد كثر التساؤل عن الحكم الشرعي للاحتفال بالمولد النبوي، والذي نعرفه أنَّه لم يرد شيء في كتاب الله ولا في سنَّة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يدل على الاحتفال بمولد أحد من الأنبياء والرسل، أو الدعوة لذلك في أي من كتاب الله وسنَّة رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولا مصدر للأحكام عندنا نحن المسلمين إلا مصدر واحد، باعتباره مصدرًا منشئًا للأحكام وكاشفًا عنها، ألا وهو: القرآن المجيد، فالله قد حصر الحاكميَّة فيه في أكثر من آية من آيات الكتاب الكريم، قال (تعالى) ﴿قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَكَذَّبْتُم بِهِ مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ﴾ (الأنعام:57)، ﴿ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى اللّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ﴾ (الأنعام:62)، ﴿مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ (يوسف:40)، ﴿وَقَالَ يَا بَنِيَّ لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُواْ مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنكُم مِّنَ اللّهِ مِن شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ﴾ (يوسف:67)، ﴿وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ (القصص:70)، ﴿وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ (القصص:88)، فسائر الأحكام التكليفيَّة الخمسة لا يرد شيئ منها على حكم هذه الواقعة ألا وهي: الاحتفال بذكرى مولد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
فما الحكم فيه؟ أنرجع إلى البراءة الأصليَّة، فيكون الاحتفال فيه على الإباحة، ويكون الإنسان مخيرًا فيه، مثل تخييره في سائر المباحات؟ هذا احتمال يمكن للمجتهدين أن يفكروا فيه، ولكن لأنَّ الفعل يتصل برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فيصعب جدًا أن يفصل ويبعد عن اتجاهات التقرُّب في مثل هذا الفعل إلى الله (تعالى)، فذلك يجعل من الصعب على المجتهد أن ينظر فيه انطلاقًا من البراءة الأصليَّة وحكم الإباحة، وبذلك يكون السؤال عنه: أهو مشروع؟ وإذا قلنا: إنَّه مشروع، ففي أي مستوى من مستويات المشروعيَّة، أهو واجب، أو مندوب إليه، أو محرم، أو مكروه، فيكون الحكم دائرًا بين هذه الأحكام الأربعة، وهذه الأحكام الأربعة يتصف كل منها بأنَّه حكم شرعي لابد له من دليل، فلا يقال للشيء هذا واجب أو مندوب أو محرم أو مكروه إلا بدليل يدل على ذلك، وإلا فقد يقع المجتهد في دائرة الحكم بغير ما أنزل الله، وهي دائرة خطيرة لا يجدر بمسلم أن يقترب منها؛ لبداهة موقف القرآن المجيد منها، وموقف رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بناء عليه، وإذا لم يمكن وضع هذه الواقعة تحت أي من هذه الأحكام الأربعة، ولا دليل لدينا يدل على شيء منها؛ فتكون إذًا من الوقائع الحادثة بعد انتهاء عصر التشريع، واكتمال الدين، والقرآن المجيد.
فلمن قال: إنَّ هذا النوع من الاحتفال بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار وجه لا يمكن تجاوزه، أو عدم الالتفات إليه وتجاهله. ومن قال: بأنَّه بدعة فعلًا؛ لأنَّه لم يحدث في عصر التشريع؛ ليضع الشارع له حكمًا، ولكن جنس ذلك يضعه في عداد الحادثات التي لم تشتمل في أصلها على القربة، لكن ما يمارس فيها من صلاة على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مأمور به، وتذكير بشمائله وسنته وسيرته وخلقه وسلوكه، كل ذلك يندرج تعليمه للأجيال في إطار ما هو واجب وما هو مستحب، وبالتالي فهل يمكن أن نقول: إنَّه فعل وإن لم يدل دليل على مشروعيَّته، لكنَّه في جملة ما يمارس فيه يعد مشروعًا؛ هذا أمر غير مستبعد، ولا يستطيع المجتهد أن يتجاهله.
لا شك أنَّ الاحتفال بالمولد هو بالنظر إلى المآل لا لبداية الحال، فرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يصبح نبيًّا ورسولًا إلا بعد بلوغه سن الأربعين، أمَّا قبل ذلك فهو بشر ممن خلق لا يصدق عليه شيء من ذلك. لذلك الذي ذكرنا كلَّه يختلف العلماء في كل عام في حكم هذه الواقعة، وحكم الاحتفال فيها، فيغلب على علماء المملكة العربيَّة السعوديَّة والخليج اتجاهات القول بالتحريم، وأنَّ هذا الاحتفال بدعة لا ينبغي فعلها، وبقيَّة أنحاء العالم الإسلامي ينزع علماؤها إلى القول: بأنَّ ذلك أقرب إلى المندوب والمشروع، خاصَّة وأنَّ البلدان التي يحدث ذلك فيها بلدان قد لا تتاح فيها مناسبات للتذكير بشخصيَّة المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم)، وسنته، وسيرته، والدين الذي جاء به، والشريعة التي جاء بها، إلا في مثل هذه المناسبات،.
فهناك بلدان تسودها الاتجاهات العلمانيَّة، والإلحاديَّة، التي لا تسمح بالقيام بأيَّة دعوات دينيَّة إلا في إطار مناسبات مثل هذه، لما تعارفت عليه البشريَّة من الاحتفال بذكرى مواليد ووفيات –أحيانا- عظماء الأمم، وبناتها، ومؤسسيها؛ فتأذن للأقليَّات المسلمة بهذه الممارسة، وتجعل هذه الأقليَّات من هذه المناسبة فرصة للتذكير بكل ما أشرنا إليه، وبيان ما جاء به رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)؛ فيكون موسمًا من مواسم الدعوة إلى الله، وتكون المناسبة مجرد ستار وغطاء لهذه الدعوة، وبالتالي: فلا ينبغي أن يناقش هذا السؤال من منطلق الاحتفال بالمولد، أهو بدعة أم سنة؟ بل يناقش الأمر في ظل سائر الملابسات، وربما تتغير صفة السؤال آنذاك ليكون: أيجوز للمسلمين الذين قد لا تسمح لهم ظروفهم، والأنظمة التي يعيشون في ظلها بممارسة الدعوة إلى الله إلا في مناسبات معينة، فهل يجوز اغتنام فرص تلك المناسبات في الدعوة أو لا يجوز؟
وفي هذه الحالة قد يكون في مقدور أهل كل بلد أن ينظروا في ظروفهم، وفي الأنظمة التي يعيشون تحت ظلها؛ ليقدروا موقفهم في الاستفادة من هذه الفرص من عدمها، ولا داعي لجعلها من مواسم الجدل والاختلاف التي تثار في كل عام وفي سائر الأنحاء.
اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد، كما صليت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم، إنَّك حميد مجيد، وبارك اللهم على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد، كما باركت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم، إنَّك حميد مجيد.
والله أعلم.
[1] مقالات الكوثري، محمد زاهد الكوثري (القاهرة، دار السلام، 1430ﮬ-2009م) ط3، ص 305: 307.