أ.د/ طه جابر العلواني.
أمريكا، وأوروبا، وإسرائيل، هؤلاء كلهم ذوات. العرب، والمسلمون، الأفارقة، والآسيويون، والشعوب الملونة، أو الجوييم كلهم موضوعات. والذات تدرس الموضوعات؛ فالموضوعات بالنسبة إليها ميدان للدراسة، والاختبارات، والتجارب، ودفن النفايات، والاستئثار بالخيرات، ونهبها، وتصنيعها، وإعادتها بأضعاف أثمانها؛ لتستهلك من نفس أولئك الجهلة الذين صدروا جلودها بأبخس الأثمان؛ ليستوردوها بعد ذلك مصنعة بأثمان تفوق أثمان الذهب، والفضة. وأذكر أنَّ كتابًا صدر بقلم: ‹جورج أورويل›، في الأربعينيات، نشرت في إنجلترا في أغسطس 1945 إسقاطًا على الأحداث التي سبقت عهد ‹ستالين›، ووقعت خلاله كذلك قبل الحرب العالمية الثانية. وقد اختارت مجلة تايمز هذه الرواية؛ كواحدة من أفضل مائة رواية بالإنجليزية، وجاء ترتيبها في الواحد والثلاثين في قائمة أفضل روايات القرن العشرين، وفازت عام 1996 بجائزة ‹فوجو› بأثر رجعي. وأود إسقاط ما جاء في هذه الرواية علي أوضاعنا في عالمنا العربي، إذ إنَّ في هذه الرواية كثيرًا من الدروس، والعبر التى لا تخلو من فائدة للقارئ العربي. وكثير ما يكتب مثل هذة الكتب، والروايات؛ كُتاب عملوا في أجهزة مخابرات، وأمن لتلك الدول الغربية، وحلفائها؛ أتاحت لهم الفرصة ليطلعوا علي كثير من الخطط، والمخططات، والمؤامرات التي تديرها تلك المؤسسات الاستخباراتيه فيما يعرف ببلدان العالم الثالث.
و‹مزرعة الحيوان› في أيامنا هذه شهدت تطورًا في أساليبها، وخططها، وتجاربها. ففي السابق كانت أجهزة الآخرين تبعث إلي بلداننا ‹مزرعة الحيوان› بأعداد من الجواسيس، والمنصريين، والباحثين في الأنثروبولوجي لجمع، ورصد كل ما لدينا: أفراحنا، أحزاننا، طرائقنا في العزاء، والأفراح، لهجاتنا، عاداتنا، تقاليدنا، حكامنا، ونظمنا، وأحزابنا، وفئاتنا، ومذاهبنا، وطرقنا الصوفية وفئآتنا السلفية. وتدفع بكل ما تحصل عليه من معلومات، وانطباعات، أو دراسات إلي تلك المؤسسات؛ لتعد لصناع القرار السياسي، والعسكري، تقارير مفصلة، تجعلهم قادرين علي رؤيتنا، كما لو كانوا يعيشون بيننا؛ لتكون قرارتهم تجاه بلداننا، حربًا، وسلمًا، تعاونًا، أو جفاءً؛ أقرب ما تكون إلي الصواب، وما الصواب إلا تحقيق مصالحهم.
ويظهر أنَّ أواخر القرن الماضي، وخاصَّة بعد بدء مرحلة الانقلابات العسكريَّة في بلداننا، وقيام دولة إسرائيل، وسلسة الحروب التي قامت بينها، وبيننا؛ بحيث لم تعد تلك الأساليب، هي الأساليب المتبعة؛ بل صارت هناك أساليب أخري كثيرة، فمنها ما سمي ‹بالفوضى الخلاقة›، ومنها ما رفع شعار ‹دعه يمر، ثم أمسك بقرونه›، ومنها ما عرف بمحاولة إمتصاص ثورات الشعوب، وإجهاضها، و تحويلها لصالحهم، لا لصالح تلك الشعوب. المهم أنَّ هناك أساليب كثيرة مبتكرة؛ لمصادرة تطلعات شعوبنا نحو التغيير، والإصلاح، والتجديد، فإدارات الصراع هناك، وفي إسرائيل؛ إدارات تضم كفاءات، وخبرات عالية جدًا، تنافس الشيطان في قدراته علي الإغواء، وقد تتفوق عليه في بعض الأساليب.
إنَّ جامعاتها، ومراكز البحوث، والدراسات، ومؤسسات الاستشراق، والتنصير؛ تمدها بسيل هائل من المعلومات الدقيقة حول كل ما لدينا، والثغرات التي يمكن النفاذ بها إلينا، ومفاتيح الفرقة، والوحدة في عقولنا، والمقاييس الدقيقة لعواطفنا، ومشاعرنا، والمعلومات الشاملة عن تاريخنا؛ لتجعل من ذلك كله وسائل فعالة، تحسن استخدامها عند الحاجة، لإجهاض ما تريد إجهاضه، وتحقيق ما تريد تحقيقه، والالتفاف علي ماتريد الالتفاف عليه . أمَّا نحن فما زلنا نقابل ذلك كله بمزيد من الجهل، والتجاهل، واللامبالاة، وانعدام التخطيط، وضعف الوعي، وتجاهل كثيرًا من المؤشرات؛ بحيث صار لديهم نوع من القناعة؛ بأنَّ العرب لا يقرأون، واذا قرءوا لا يفقهون. ‹فموشيه دايان› طبق حسب زعمه خطته نفسها، بتعديلات طفيفة جدًا في 1967م، بعد أن نفذها علي الأرض المصريَّة في سنة 1956، فقالوا له: ألم تخشى أن يكتشفوا ذلك؟ قال كلمته المشهورة تلك: “إنَّ العرب لا يقرأون، وإذا قرءوا، لا يفقهون”. واليوم تتتابع الأحداث في بعض بلدان الربيع العربي، وتلقي الفئات كلها بكل ما لديها من أفكار، ومشاريع، ومخططات، وتطلعات، وآمال مستقبلة على قارعة الطريق في مظاهرات، واعتصامات؛ بحيث لم تعد أي نقطة، من نقاط القوة، أو الضعف في شعوبنا، ونظمنا، وتراثنا، وتاريخنا إلا صارت بارزة، ظاهرة، يلتقطها من شاء منهم على قارعة الطريق، ويدونها بالطريقة التي يريد، سواء أكانت بالصوت، والصورة، أو بالظلال، خبرًا، أو فهمًا، أو تحليلًا؛ ليتعامل بعد ذلك مع كل تلك المعطيات، دون حاجة إلى أجهزة عاديَّة، تلتقط جزء من خبر، من هذه الشخصيَّة، أو تلك، ومن هذا الحزب، أوذاك. ولِما التعب والجهد، والمال، وكل شئ معروض على قارعة الطريق، كما أنَّ عوامل التفكك، والتفسخ، وما حدث في بلداننا، من معارك، حول النهضة، والتقدم، والحداثة، والشريعة، والأصالة، والمعاصرة؛ كل ذلك قد فرَّغ بلداننا، وشعوبننا؛ من كثير من طاقاتها، وقدراتها، وأوجد فراغات؛ تسمح له بالامتداد حيث يشاء. فإنَّ لله وإنَّا إليه راجعون.
في العراق بعد عام 1956م، طغت سمعة الحزب الشيوعي؛ ليصبح أقوى الأحزاب السياسيَّة في العراق تقريبًا، وصار الحزب يتمتع بشعبيَّة عالية، ولم تعد كل أساليب الاضطهاد، والتضييق التي استخدمها العهد الملكي للقضاء على الشيوعيَّة، أو إيقاف امتدادها أو سد خطرها، فاعلة أو مؤثرة، وهنا وقع الانقلاب على النظام الملكي، وجيئ بعسكريين كان أحدهما: ميالًا إلى التوجهات اليساريَّة، والاشتراكيَّة، وهو ‹‹عبد الكريم قاسم››، واستطاع عبد الكريم قاسم أن يدفع القوميين الذين أبعدهم عن السلطة، وسدَّة الحكم، ويقرب بعض اليساريين، ويطلق العنان للقوى الشيوعيَّة، واليساريَّة؛ لتنتشر في الشارع العراقي، ومنحها حريات؛ جعلتها تشعر بأنَّها قد بلغت مرحلة التمكن من السلطة، وأنَّ أحدًا لن يستطيع زحزحتها عن مواقعها فيها، بما في ذلك ‹‹عبد الكريم قاسم›› نفسه، فانطلقت تحاول ضم كل شباب البلاد، وشخصيَّاتها المؤثرة إلى واجهاتها العديدة. فمن لم يشأ أن ينضم للحزب الشيوعي، لينضم إلى الشبيبة الديمقراطيَّة، أو إلى أنصار السلام، أو إلى أي واجهة أخري، المهم أن لا يبتعد عن تلك الدائرة الحمراء، ويذهب إلى صفوف أعدائها. وبدا الحزب الشيوعي على حقيقته؛ حين مارس السلطة، كحزب دموي، لا يعرف للإنسان قيمة، أو كرامة؛ إذا لم يستسلم لإرادته، حتي كره الشعب كل ما له صله بالشيوعيَّة، والاشتراكيَّة، أو تلك الواجهات الكثيرة، مثل: الشبيبة الديمقراطيَّه، أو أنصار السلام. وصار الشعب يرى في الحزب عدوًا له يجب استئصاله، وفجأة يصف ‹‹عبد الكريم قاسم›› -الذي منحهم كل تلك الحريَّات، وأطلق أيديهم في البلاد، ورقاب العباد، وحل كل تلك الواجهات، والمنظمات، وإدخال كثير من قيادتها السجون، وألقى خطب عديدة، أشهرها: خطبة قالها في: افتتاح كنيسة من الكنائس- الشيوعيين باللاإنسانيَّة، والقسوة، وأنَّ بعض المواطنين استطاعوا أن يقدموا للزعيم: رؤس أربعين طفلًا، قد ذبحوا أمام أمهاتهم وآبائهم؛ ليرهبهم الشيوعيين، ويحملوهم على: الانقياد لإرادة الحزب. وتنفس الناس الصعداء؛ وكافأ الإسلاميون، والقوميون في العراق: الزعيم التائب الراجع عن تأييد الشيوعية، والشيوعيين وأنصاره يهتفون باسمه: عاش نصير الإسلام ‹‹عبد الكريم قاسم››، بدلًا من: عاش نصير السلام، وصار القوميون يهتفون: عاش الديمقراطي ‹‹عبد الكريم قاسم››، وصار بين ليلة، وأخري: نصير الإسلام، وظهير العروبة. وانقلب الشعب العراقي؛ الذي كاد في العهد الملكي أن يسلم زمام قيادته إلى: الحزب الشيوعي، صار يتصيَّد الشيوعيين في كل زاوية من زوايا العراق، وتشكلت فرق، واغتيالات؛ لاغتيال قادتهم. وآنذاك؛لم يعد للشيوعية، أي تأثير، أو بريق، أو جاذبية؛ تسمح للناس، بالانضمام إليها، أو تأييدها.
أذكر نقاش جرى بيني وبين ‹‹عبد الكريم قاسم›› حيث قال لي، بعد أن أخرجني من السجن: أأنت من كافح الشيوعيين، أم أنا؟ قلت له: أنت، لكنَّك لم تقم بذلك بناءً على قناعتك بأنَّ العراق بلد: مسلم، عربي، لا تصلح الشيوعية له، بل فعلت ذلك؛ لأنَّه هدف، من أهداف: فسح الطريق أمامك؛ للإطاحة بالنظام الملكي، وتحجيم الشيوعيين؛ الذي لم يكن ليحدث، لولا إعطائهم الحرية، وإطلاق أيديهم في: جميع أنحاء البلاد، وفي رقاب العباد. وبعد أن تحقق الهدف، وظهرت الشيوعية على حقيقتها، وبانت دمويَّة الشيوعيين، وأسدل الستار؛ انزعج لموقفي جدًا، و ظل يوعد، ويهدد، وقلت له: إن شئت إعادتي إلى السجن، فإن حاجياتي، لا تزال فيه، ومستعد للعودة إليه.
فنحن مطالبون اليوم بأن: نتسلَّم الدروس، والعبر، من ذلك التاريخ القريب؛ لنعرف: من هي القيادات، والفئات التي يراد: إجهاض شعبيتها، وتدمير سمعتها؛ لتسليمها: سلطة، منقوصة، أو ملغومة، أو غير مستقرة، وتجريدها من أي تأثير على قلوب الناس، وأفئدتهم.
وفقنا الله، وإياكم لما يحب ويرضى.