أ.د/ طه جابر العلواني
لاحظت في أمريكا عند حدوث موجات السقيع الشديد تفتح معظم الكنائس أبوابها لاستقبال من لا سكن لهم –homeless-وإطعامهم، وحمايتهم من السقيع إلى أن تمر موجات السقيع دون خسائر، ووفيات بقدر الإمكان، وسألت بعض أئمة المساجد المسلمين: لما لا يفتحون المساجد في مثل هذه الظروف، ويدخلون إليها الناس، يحمونهم من موت محقق تحت الثلوج. أليس المسجد بيت الله؟
فاضطربت إجابات الكثيرين منهم، فمنهم من قال: إنَّ إدخال هؤلاء، وأمثالهم وفيهم من يعاقرون الخمر، والمدمنون، وغيرهم؛ تدنيس للمسجد لا يليق، والمسجد واحد من بيوت أذن الله أن ترفع، ويذكر فيها اسمه، والمساجد دور خصصت للعبادة، فلا ينبغي أن تشغل بغيرها. فكنت أدخل مع بعض الأئمة في نقاشات طريفة، لا بأس من ذكر بعضها، أقول له مثلًا: ترى لو مات الناس بالسقيع، أو غيره فهل يعبد الله (جل شأنه)؟ إنَّ العبادة إنَّما تقع من إنسان حي، فإذا مات الإنسان فلا عبادة؛ إذًا لابد أن تكون حياة الإنسان أغلى من العبادة؛ لأنَّه هو من يقوم بها، وإذا قلتم: إنَّ هؤلاء الذين لا مساكن لهم –homeless-فيهم العصاة، والمدمنون، وأمثالهم. فالله (جلَّ شأنه) يعلم أنَّ عباده سيكون منهم: ظالم لنفسه، ومقتصد، وسابق بالخيرات، وكلهم في دائرة العبوديَّة سواء، وحسابهم على الله (جلَّ شأنه). ألم يستقبل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الوفود من مشركي العرب، وأهل الكتاب في مسجده، وكان يقف على خدمة بعض أهل الوفود بنفسه في مسجده؛ فيطعمهم ويسقيهم؟
ثم إنَّك بهذا تعطي رسالة للشعب الأمريكي كله، وغيره بأنَّك متضامن معهم في الأزمات العامَّة، والمشتركة، فإنَّك تكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتنصر المظلوم، وتطعم الجائع، والمعتر، وتكسو العاري، وتعمل على معالجة المدمن، وهداية المنحرف؛ فتعطي رسالة لهذا الشعب كله بأنَّك من أرأف الناس به، وأرحمهم بضعفائه، وهذه الرسالة ستكون كافية لإشعار جيرانك، ومراقبيك بمدى فائدة وجودك بينهم؛ بل سيشعرون بأنَّ وجود مثلك ضرورة لحياتهم، فلا تستبد بهم الإسلاموفوبيا، ولا يسيطر عليهم الخوف منك، ولا يستطيع أحد بعد ذلك أن يقرن اسمك بالإرهاب، والتخريب، والتدمير، كيف، وقد اقترن اسمك عمليًّا بأعمال بر، وخير تستهدف أضعف من في المجتمع. وأنت بذلك سوف تسد الأبواب بوجه أولئك الذين يثيرون المخاوف من وجودك في أمريكا، وأوربا، والعالم الغربي كله، ويجعلون من وجودك وكأنَّه متفجرات تنتظر التفجير؛ ليكرسوا حالة الخوف منك ،والحذر من وجودك، وضرورة محاصرتك بأسيجة من الكراهيَّة، تحول بينك، وبين الانتماء لهؤلاء. وأنت إن كنت حريصًا على البقاء في هذه الأرض، والتأسيس لأهلك، وقومك فيها، وجعل دينك، ووجوده وجودًا أصيلًا فيها؛ لابد لك من سلوك هذه الأعمال[1].
قال لي بعضهم: وماذا نفعل في قوله (جلَّ شأنه) ﴿وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا﴾ (الجن:18)، فإذا أراد هؤلاء أن يصلّوا للسيد المسيح، أو يذكروا كلمة من كلمات الكفر فهل يجوز لنا أن نمكنهم من المسجد؟ قلت له: يا أخي قد جاء وفد نجران النصراني إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)؛ ليثير الشبهات، ويزعزع إيمان المسلمين، ويدَّعي بين يدي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وفي مسجده أنَّ المسيحيَّة أقوى، وأصدق من الإسلام، وما منع ذلك رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من برهم، وإكرامهم. وقد سجلت لنا الآيات الثمانون الأولى من سورة آل عمران أهم الحوارات التي جرت بينهم، وبين رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). فالمسلم لا ينبغي أن يكون مهزوزًا ضعيفًا يخاف على إيمانه من هبة ريح، أو صيحة، أو ما شاكل ذلك، فإنَّ الإيمان بالله، ووحدانيته ينبغي أن يكون إيمانًا لا يتزعزع، ويقينًا لا يتضعضع مهما تكالبت عليه الضغوط.
وما أكثر مساجدنا في العالم الإسلامي، ولقد سمعت في اليومين الماضيين عن لجوء المواطنيين في أماكن كثيرة من العالم الذي غمرته موجة السقيع إلى المدارس، لكنَّني لم أسمع ولم أقرأ شيئًا عن لجوئهم إلى المساجد وهي الأولى بهم. إَّننا نريد أن يرتبط اسم المسجد في عقول أبنائنا، وناشئتنا بالرحمة، والمودة، والمحبة، والإنقاذ، وحماية الضعفاء، وإطعامهم، وحسن استقبالهم؛ ليكون المسجد مثابة للناس، وأمنًا؛ طعامًا عند الجوع، وكساءً، وغطاءً عند العري، ودفئًا، ومصدر طمأنينة عند الخوف؛ ولذلك قال (جلَّ شأنه) ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَآئِفِينَ لهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ (البقرة:114).
لقد نقل لنا التلفاز صور مئات المساجد في سوريا، وفي غيرها من العالم الإسلامي تدكها القنابل، وتهدمها على رؤوس اللاجئين إليها، والمصلين فيها. أفلا يخاف هؤلاء المفسدون في الأرض الذين هدموا المساجد على عمَّارها في الشام، وغيرها أنَّهم يحاربون الله بذلك، ويحاربون رسوله. وإذا كان هناك كما لوحظ في بعض نواحي اليمن من يقاوم أعداءه من خلال المسجد، فذلك لا يلغي حرمة المسجد، ولا يهدمها، فحرمات الله (جل شأنه) لا تتغير، ولا تتحول بأخطاء بعض الناس، أو مظالمهم. وعلى الجميع أن يحترموا مساجد الله، وأن ينزههوها، وأن يحترموا لجوء الأطفال، والأسر، وكبار السن، والضعفاء إليها، ويجعلونها مواقع أمن، وطمأنينة، إيمانًا بالله، وحبًا له، واحترامًا لبيوت أذن الله أن ترفع، ويذكر فيها اسمه.
يا قومنا ارحموا ضعفاءكم؛ ليرحمكم الناس. لقد أثر عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنَّه قال: “.. وأيُّما أهلُ عَرصةٍ أصبح فيهم امرؤٌ جائعٌ فقد برئت منهم ذمةُ اللهِ تعالى”[2]. فكيف إذا بات الملايين في سررهم الدافئة وغرفهم المكيفة، وهم موقنون على أنَّ إخوانًا، وأخوات، وأبناء، وبنات منهم؛ يفتك البرد بهم حتى الموت. لقد كانت أمثالنا العاميَّة تقول: “لا أحد يموت من الجوع”، أو “لا أحد يبيت من غير عشاء”. وقد عشنا ونحن نرى في عصر البترول الذي تتفجر ينابيعه من تحت أرجل العرب، كيف يموت عرب مسلمون، وغير مسلمين من الجوع، والعطش، والبرد الشديد. لقد أعلن عن عدة وفيات في سوريا من البرد، وكذلك في بلدان أخرى، وما زالت بنوك الغرب، وكنوزه تمتلئ بأموالنا المودعة هناك، التي كلما زدنا فيها نقصوا منها بمختلف الحيل الاقتصاديَّة، ونوشك أن نخرج منها بعد ذلك مدينين لتلك البنوك، ومن وراءها.
إنَّ الله حين أوقع العداوة، والبغضاء بيننا، وبين بني إسرائيل؛ أعطاهم القدرة على اكتناز المال في البنوك، والسيطرة عليه، والتصرف فيه، وأعطانا آبار البترول التي تنتج المال، وتستخرجه؛ لكي يرى كيف يتصرف كل منا ومنهم. لقد أحسنوا التصرف في المال الذي بين أيديهم، وفي البنوك التي هيمنوا عليها، والشركات عابرات القارات التي أسسوها، وابتكروها؛ فأقاموا دولتهم، وتمكنوا من رقاب المؤسسات، والدول الحكومات، وأسأنا التصرف فيما خولنا الله من نعم، بل لقد صارت تلك النعم نقمًا علينا، لا نشفي بها مريضًا، ولا نجهز بها غازيًا، ولا نكرم بها شهيدًا، ولا ندفئ بها مقرورًا، ولا نطعم فيها مسكينًا، ولا يتميًا، ولا أسيرًا، ولا مشردًا؛ بل تبلعها الأزمات تلو الأزمات، وكل تلك الأزمات مفتعل مقصود؛ للاستيلاء على مدخرات أهلينا، وذوينا، وحرماننا جميعًا مما بين أيدينا من نعم. فهل لنا من فواق، ويقظة، بعد استغراق بنوم؟ لعل ذلك يَحْدُث. ولعل بعد هذا العسر يسرا. ولعل الله يقيض لهذه الأمَّة أمر رشد.
[1] (نرجو أن لا يفهم أحد أنَّنا نهتم بمراءاة الناس سواء أكانوا أمريكان، أو غيرهم، أو محاولة تملقهم بأعمال البر؛ فأعمال البر لله، لا ينبغي أن يقصد بها وجه غيره، ولكن الله (جلت حكمته) يتقبل العمل الصالح، ويجعله مصدر رضاه عن عباده، ويجعل له فوائد أخرى تعود على علاقات الناس ببعضهم؛ فيحبب أولياءه، وأهل طاعته لخلقه، ويحول بين أعدائهم، والنيل منهم، فكل عمل بر خالصا لله وحده غاية وفائدة؛ فالغاية هي: الله ووجهه (جل شأنه)، والفوائد: منح إلهيَّة رتبها الله (جل شأنه) على عمل البر في الدنيا، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، ويختص برحمته من يشاء).
[2] مسند أحمد، حديث رقم 49.