Menu
منهجية التعامل مع التراث الإسلامي - مراجعة لكتاب من أدب الاختلاف إلى نبذ الاختلاف - أُمْنِيّة أهلِ السجود([1]) - The future of Islam in America and west - جانب من جلسات فريق باحثي الأزهر للعمل على وضع منهجية مراجعة التراث - حوار حول الربيع العربي - الإسلام والمسلمون من وجهة نظر غربية - برنامج اخترنا لمكتبتك - معالم في المنهج القرآني - ومضات فكرية

الإسلام والبرامج السياسيّة

أ.د. طه جابر العلواني

أن يهتم الدين أي دين بسياسة الناس ورعاية شؤنهم أمر طبيعيّ وبديهيّ؛ فالدين مهمته في النهاية تزكية نفوس الناس وتعليمهم وتذكيرهم بكرامتهم الإنسانيّة وعبوديتهم لله -جل شأنه- ومساواة كل منهم للآخر في تلك العبوديّة. فإذا كانت السياسيّة تعني العمل على إصلاح شأن الناس وتكريمهم وتحقيق المساواة بينهم ودعوتهم إلى إقامة العدل فيما بينهم وألا ينسى أي منهم فضل الآخرين عليه وفضله فيهم فتلك كلها أمور يعني الدين بها ويدرجها في إطار مقاصده النبيلة وغاياته الشريفة؛ لكن الدين أي دين أعم وأكبر وأوسع وأشمل من أيّ برنامج سياسيّ مهما يكن أصحابه.

فالبرامج السياسيّة أمور تفصيليّة تعنى بشؤن يوميّة عاجلة لها بداية ولها نهاية ولها آليات ووسائل وأدوات يمكن أن يرجع فيها إلى الدين وإلى جلب المصالح ودرء المفاسد التي يغلب أن تكون قضايا عقليّة تجريبيّة حياتيّة قد تتتداخل في مرجعيّاتها القيم والدين والثقافة والضرر والنفع واللذة والألم والصلاح والفساد وما إلى ذلك.

فالعلاقة بين الأديان والبرامج السياسيّة علاقة العموم والخصوص من وجه أو أوجه. ودمج البرامج السياسيّة بالأديان أو تقزيم الأديان لختزالها في برامج سياسيّة يؤثر في الأديان تأثيرا سلبيّا ويؤثر في السياسة تأثير أكثر سلبيّة. والإسلام بالذات يتعذر على أيّ برنامج سياسيّا أن يهيمن عليه أو يضعه تحت جناحيه؛ ذلك لأنّ الإسلام حمله إلينا خاتم النبيين والمرسلين -صلى الله عليه وآله وسلّم-  بقرآن هُوَ خاتم الكتب السماويّة جعل الله تعالى فيه الحاكميّة وجعلها له وأودعه شريعة تخفيف ورحمة ورسم فيه منهاجًا فريدًا معجزًا للتعامل معه، وتعامل مع قضايا الناس بمنهاج لا يتغير ولا يتبدل ولا يعتريه النقص، ولكي يكون الإنسان قادرًا على الاستفادة من ذلك المنهاج في برامج حياته بث قواعده في القرآن كلّه ومن هذه القواعد ]وَخُلِقَ الإِنْسَانُ ضَعِيفًا[ (النساء:28) ] إِنَّ الإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا[ (المعارج_19-21) وخلق وهو يحب العاجلة ويذر الأخرة ] فَأَمَّا الإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ[ (الفجر_15-16). ويبلغ ضعفه أقصاه أحيانا حين يربط بين رزقه وفشله في الوصل إليه وتدينه، فيجعل رزقه موقوفا على عدم التدين ]وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ[ (الواقعة:82) ويدرك المنهج القرآنيّ أنّ هذا الإنسان ضعيف العزم كثير النسيان تبهره الزينة ] زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ[ (آل عمران:14) لا يحب المكاره ولا يصبر على معاناتها طويلا، إذا أبى الخيانة بجملته فقد لا يستطيع أن يسيطر على أعضاءه وجوارحه التي قد تخون الله وتخونه، ولذلك فإن الله -جل شأنه- الَّذِي وضع هذا المنهاج يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، والإنسان سريع النسيان، سريع التنكر للنعمة، ]قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (63) قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ[ (الأنعام:63-64) كل ذلك وكثير غيره يعلمه صاحب الشرعة والمنهاج جل شأنه: ]فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ[ (الأعراف:190).

يكثر الإنسان من ادعاء العقلانيّة والثناء على نفسه ونسبتها إلى الموضوعيّة وكثيرا مَا يتجاهل ذلك كلّه ويتخلى عنه، ولذلك فإنه سبحانه وتعالى قد جعل شريعته قائمة على علمه المطلق بمن خلق ]أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ[ (الملك:14) وأنعم عليه بأن رخص له بالاجتهاد ليكون أكثر قدرة على رؤية وفهم عدل الشريعة وحكمتها واستقامتها وصدق المنهج وفاعليّته وجعل الاجتهاد فريضة على المؤمنين به فالاجتهاد عبادة العقول، والجهاد جهاد العقول والأبدان والأنفس والأموال، والاجتهاد حين يكون حالة عامّة للأمّة تمارسه الأمّة بجميع مستواياتها فهو ليس قاصر على النخبة؛ فالنخبة بعض المكلفين بالاجتهاد، كما أنّ مستوى اجتهاد النخبة شيء، ومستوى اجتهاد العامّة شيء آخر، لكن الجميع مطالبون به ومكلفون بممارسته وتحمل أعباءه حتى قال علماء الأمّة الراشدون بوجوب الاجتهاد على كل مؤمن ومؤمنة قيل وما بال العوام قالوا عليهم أن يجتهدوا في اختيار أئمتهم ومن يرجعون إليهم من أهل الصلاح والتقوى، فيعرفوا أقوالهم من أين أخذوها وإلى من رجعوا فيها فإذا اطمأنت قلوبهم إلى سلامة مراجع هؤلاء ومناهجهم في الرجوع إلى كتاب الله ومنهج رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلّم-  في اتّباعته وتطبيقه وتعليم مَا فيه من حكمة وعلم كان لهم آنذاك أن يختاروا من أولئك الذين يعلمونهم من هُوَ الأقرب إلى كتاب الله ومنهج رسول -صلى الله عليه وآله وسلّم- . وبدون ذلك قالوا:

وكل من بغير علم يعمل         أعماله مردودة لا تقبل

وإذا كانت الأعمال بالنيات، فكذلك الأعمال بالمعرفة فلا بدّ من صلاح المعرفة وسلامة النية. إن البرامج البشريّة قد تختزل المعرفة كلها في شعار لا يسمن ولا يغني من جوع وقد تختزلها في رمز أو صورة أو مَا إلى ذلك، وذلك يضيف إلى جهالة الجماهير جهلا وإلى عامتهم سذاجة وسطحيّة وكل ذلك لا يغني عنهم من الله شيئا. وكنّا في شبابنا الباكر وقد بلي بلدنا بطائفيّة رعناء؛ كثيرا مَا نسمع قصاصين أو وعاظ أو قراء عزاء إذا سؤلوا عن الفرق بين الشيعة والسنة أجابوا: بأن السنيّ له ذيل ليكون معه حين ينقلب خنزيرا بعد الموت، والشيعيّ لا ذيل له؛ لأنّ حبه لآل البيت يمحو عنه كل خطيئة. وذلك حين يكون جمهور القارء «الروزخون» في مجلس شيعيّ ولو ذهب إلى مجلس سنيّ لعكس الأمر ومنح الذيل للشيعيّ وجعل السنيّ بلا ذيل وهكذا.

وأمّتنا أمّة تشيع فيها الأميّة المكشوفة والمقنعة ولذلك فإنها تقبل على الأمور السهلة وتنخدع بالشعار والعبارة الرنانة فيوم يطرح عليها شعار «الإسلام هُوَ الحل» وقد يطرح على النصارى «النصرانيّة هِيَ الحل» كما طرح على اليهود الصهونية هِيَ الحل واليهوديّة هِيَ الحل وقد نسمع في الأوساط الكنفوشيوسية والهنديّة مثل ذلك.

والله تبارك وتعالى يرفض تجهيل عباده ورسول الله -صلى الله عليه وآله وسلّم- بدأ برنامجه لمحو الأميّة بالاستفادة من أسرى قريش القادمين من بيئة تجاريّة لتعليم أصحابه القراءة والكتابة وكان المفروض أن نجد بابا في كتب فقهنا يجعل من القراءة والكتابة فريضة شرعيّة وكيف لا تكون كذلك و«اقرأ» هي أول كلمة نزلت عليه -صلى الله عليه وآله وسلّم- لتخرج الناس من الأميّة ]هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولا مِنْهُمْ[ (الجمعة:2) والقراءة والكتابة مما لا ينفذ الواجب المطلق إلا بها وهي مقدورة للمكلفين، فكان ينبغي لفقهاء العصر الأمويّ من التابعين وغيرهم والعصور التي تلت ذلك ألا يخلوا كتب الفقه من بابا أو فصلًا يبلغون فيه هذه الفريضة الغائبة فريضة القراءة والكتابة ولو حدث ذلك لاستطاعت هذه الأمّة أن تكون خير الأمم بوسطيّتها وخيريتها ولربما أصبح من المستحيل إزاحتها عن موقعها؛ ولكن غفلة الصالحين قد أدركتنا وتقاعص الحاكمين الذين يجدون حكم الشعوب الأميّة وقيادتها أيسر عليهم من حكم الشعوب القارئة الكاتبة، فزادوها جهل على جهل وعزلة على عزلة ليستأثروا وليستبدوا.

إن التفريط بالاجتهاد ومهاجمة العقلانيّة وإعلاء شأن اللاعقليّة التي يعبر البعض عنها بالتعبديّة جناية على أمّة قامت على ركني الاجتهاد والجهاد لتستقيم عقولها وقلوبها وتصرفاتها وسلوكها وهي تؤدي مهام الاستخلاف.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *