Menu
منهجية التعامل مع التراث الإسلامي - مراجعة لكتاب من أدب الاختلاف إلى نبذ الاختلاف - أُمْنِيّة أهلِ السجود([1]) - The future of Islam in America and west - جانب من جلسات فريق باحثي الأزهر للعمل على وضع منهجية مراجعة التراث - حوار حول الربيع العربي - الإسلام والمسلمون من وجهة نظر غربية - برنامج اخترنا لمكتبتك - معالم في المنهج القرآني - ومضات فكرية

يا حبيبتي يا مصر

أ.د: طه جابر العلواني

قلبي معك يا مصر، عينايا لا تكف عن البكاء، وقلبي يعتصر بالألم، وإنّي لما يجري فيك يا مصر لمحزون، حين جئت إلى مصر للمرة الأولى وأنا في السابعة عشر من عمري، في الخامس عشر من نوفمبر 1953، أحببتها بل عشقتها، ووجدتني شيئًا فشيئًا أنفصل عاطفيًّا عن بلدي العراق لأصب عواطفي كلّها في هذا الوطن البديل مصر، وما تمنيت أن أكون مواطنًا في حياتي كلّها إلا في واحد من بلدان ثلاثة: مكة المكرمة، المدينة المنورة، ثم مصر.

أمَّا مكة والمدينة فالأسباب معروفة، وأمَّا مصر فهي حبي الثقافي والمعرفي والديني، وشعب طيب يصعب أن لا تحبه، ويتعذر عليك أن تزدريه، أو تشعر بأنَّك لا تنتمي إليه. ثم جاء إصهاري للمصريين واقتراني بالدكتورة منى أبو الفضل -تغمدها الله برحمته-؛ ليكون المعزز الدائم لعواطفي ومشاعري الدائمة المستمرة نحو مصر، فحين أقول: (إنني حزين لكل ما يجري في مصر الآن)، فإني أقولها باعتباري ثكلى لا لأني نائحة مستأجرة.

أستمع إلى كل الفرق اليوم فأفتقد ذلك الصوت المحبب، الذي استقبلتني مصر به في الخمسينيَّات، أفتقد ذلك الصوت المعتدل الذي لا يعرف العنف ولا يعرف التطرف، أفتقد ذلك الصوت الذي يستقبل المصري به كل ما يسمع وكل ما يقال له دون أن يفقد ابتسامته، ولازلت أضحك لموقف أحد زملائي من طلاب السنة الأولى في كلية الشريعة والقانون حين كان الأستاذ يقرر لنا درسًا بناه على حديث موضوع هو: “اختلاف أمتي رحمة”، وبمجرد أن قال الشيخ الحديث فإذ بأحد الطلبة يجيبه على الفور ضاحكًا: “يا سلام، والاتفاق عذاب”.

هكذا كان المصري يستقبل ما يقال له، حتى لو صدر بقولهم قال رسول الله –صلى الله عليه وآله وسلم- فهناك عقليَّة عفويَّة مرحة عاطفيَّة كأن فيها مصفاة داخليَّة تصفي ما يخترق الأُذُن قبل أن يستقر في القلب أو الوجدان أو الوعي، أين ذهب ذلك كله؟

نعم لقد خضع المصري والشخصيَّة المصريَّة إلى عمليَّات تجريف أوصلت هذا الشعب الطيب المعتدل العاقل البعيد عن العنف إلى هذا الذي وصل إليه اليوم، فاستبدل نزوعه إلى المحبة والمودة والصبر والهدوء والسلام والأمن والاستقرار بنزوع إلى الصراع والتنازع والتشرذم ورفض الخضوع لأيَّة سلطة اجتماعيَّة حضاريَّة منظمة، وإذا كنا نتسامح مع هذا النزوع في بلدان مثَّلت القبليَّة فيها كل شيء، فقد كنا نرى في مصر كنانةَ الله في أرضه، التي لا تحتمل القبليَّة ولا مجال فيها للطائفيَّة، ولا الصراعات العرقيَّة فما الذي حدث؟

إنَّه التجريف؛ ولذلك فرَدْا لبعض جميل مصر عليّ أود أن أذكِّر مصر والمصريين في هذه الساعات الحرجة ببعض الأحاديث: أخرج البخاري في حديث رقمه فيه (1745) قال: “أشرف النبي –صلى الله عليه وآله وسلم- على أطم من آطام المدينة فقال: هل ترون ما أرى؟ إنّي لأرى مواقع الفتن خلال بيوتكم كمواقع القطر”، وأخرج أبو داود في حديث رقمه فيه (3717) جاء فيه: “أنَّ أبا ذر الغفاري –رضي الله عنه- قال: قال لي رسول الله –صلى الله عليه وآله وسلم- يا أبا ذر، قلت: لبيك يا رسول الله وسعديك، قال: كيف أنت إذا أصاب الناس موت يكون البيت فيه بالوصيف؟ -يريد أن يستبدل البيت بقبر، إشارة إلى رغبة الناس في الموت أكثر من رغبتهم في الحياة- يقول أبو ذر قلت: الله ورسوله أعلم، أو قال: ما خار الله لي ورسوله، قال: عليك بالصبر، أو قال: تصبر، ثم قال لي: يا أبا ذر قلت لبيك وسعديك، قال: كيف أنت إذا رأيت أحجار الزيت قد غرقت بالدم؟ -يعني بذلك حجارة المسجد الحرام أو الكعبة، فقد كان يطلق عليها حجارة الزيت- يقول أبو ذر، قلت: ما خار الله لي ورسوله، قال: عليك بمن أنت منه، قلت: يا رسول الله أفلا آخذ سيفي وأضعه على عاتقي؟ قال: شاركت القوم إذًا، قلت: فما تأمرني؟ قال: تلزم بيتك، قلت: فإن دخل علي بيتي؟ قال: فإن خشيت أن يبهرك شعاع السيف فألقي ثوبك على وجهك يبوء بإثمك وإثمه”.

وأخرج البخاري عن الأحنف ابن قيس قال: “ذهبت لأنصر هذا الرجل -لعله كان يريد أمير المؤمنين عليًّ- فلقيني أبو بكر فقال: أين تريد؟ قلت: أنصر هذا الرجل، قال -أي أبو بكر-: ارجع فإنِّي سمعت رسول الله –صلى الله عليه وآله وسلم- يقول: إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار، فقلت: يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: إنَّه كان حريصًا على قتل صاحبه”. وورد في الأخبار عن أبي أمية الشعباني قال: أتيت أبا ثعلبة الخشني فقلت له: كيف تصنع في هذه الآية؟ فقال: أية آية؟ قلت: قول الله تعالى: ﴿يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم﴾؟ قال: أما والله لقد سألت عنها خبيرًا, سألت عنها رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- فقال: بل ائتمروا بالمعروف, وتناهوا عن المنكر, حتى إذا رأيت شحًّا مطاعًا، وهوًى متبعًا، ودنيا مؤثرة، وإعجابَ كل ذي رأي برأيه, فعليك بخاصة نفسك، ودع العوام؛ فإنَّ من ورائكم أيامًا الصبر فيهن مثل القابض على الجمر, للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلًا يعملون كعملكم”، قال عبد الله بن المبارك: وزاد غير عتبة: قيل: يا رسول الله, أجر خمسين رجلًا منا أو منهم؟ قال: بل أجر خمسين منكم.

وهناك أحاديث كثيرة أخرى تحذر من الفتن، ومن الدخول في الأمور الملتبسة، ومن الصراع الداخلي، والعنف الأهلي الذي ينبغي أن يجعل بين الأمَّة وبين العنف والتنازع الداخلي سياجًا لا يخترق وليس لأحد أن يخترقه أو يخل به بأي حال من الأحوال. فيا أبناء مصر تذكروا ذلك كلّه، واحتكموا إلى المحبة والمودة والوئام واجلسوا معًا وتحاوروا كما تشاؤون تظلل حوراتكم المحبة والمودة، والنوايا الحسنة، والأهداف الصادقة فذلك أولى بكم وأحرى من التنازع والصراع، ولا يشغلنكم التكاثر، أعني أن يكاثر بعضكم بعضًا في المليونيَّات والتظاهرات وما إلى ذلك، مما يزيد في فرقتكم واختلافكم، وتهديد حاضركم ومستقبلكم.

حفظك الله أيتها الحبيبة مصر، وحفظ لك شعبك، وأعانك على اجتياز هذه الأزمة كما عودتنا بروح المودة والرحمة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *