الحلقة الأولى
أ.د. طه جابر العلواني
الطائفة: مجموعة من الأمة أو الشعب تتصل بها وتنفصل، وبمقدار ما تتصل الطوائف بالأمة الأم بمقدار ما تضعف الآثار السلبية للطائفية وقد تختفي ولا تظهر إلا إذا جاء ما يظهرها ويفجرها.
وقد عرف تاريخنا الإسلامي فرقة المسلمين إلى مذاهب وفرق في تاريخه كله منذ الفتنة الكبرى، وكانت أخطار الاختلاف والافتراق إلى طوائف ومذاهب يتحملها جسم الأمة؛ إذ كان ما يزال قويًا متماسكًا، وقد لا تظهر آثارها السلبية إلا بعد أن يدبَّ الضعف في جسد الأمة الأم. وتفرق الناس إلى شيعة وسنة ومرجئة وقدرية وأهل حديث وإن كان مرفوضًا رفضه القرآن الكريم ونهى عنه وكثرت تحذيرات رسول رب العالمين من ذلك، فقال جل شأنه: ﴿إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ﴾ (الأنعام:159)، وهو إعلان لبراءة رسول الله –صلى الله عليه وآله وسلم- وتوعد القرآن الكريم على ذلك في أكثر من موضع منه وفي أكثر من آية، ومنها قوله جل شأنه: ﴿قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ﴾ (الأنعام:65)، فتفريق كلمة الأمة وتوزيعها إلى شيء سائل متفتت تتوزعه الطوائف قد يجعل جميع هذه الطوائف عرضة لعذاب الله؛ بحيث يجعل بعضهم يهلك بعضًا ويذيق بعضهم بئس البعض الآخر. والطائفة التي تكون سائدة اليوم قد تضعف وتفقد سيادتها غدًا، فتعلو عليها طائفة أخرى وهكذا يذيق بعضهم بئس بعض ويدخلون في دوامات من العنف لا تنتهي. وأول الرابحين من مثل هذه الحالة أعداء تلك الأمة والطامعون فيها والانتهازيون من السياسيين والخبثاء منهم الذين يعبدون كراسيهم ومصالحهم ويأثرونها على كل شيء، وهؤلاء لا دين لهم وإن تظاهروا بالتدين ولا إيمان لهم، اتخذوا أهوائهم وشهواتهم وعاجل أهدافهم آلهة وأربابًا من دون الله، ومهما يسوق هؤلاء من مصوغات من مواقفهم فإنهم يكذبون على شعوبهم ويخدعونهم، وتلك هي الطائفيّة السياسية: يمكن أن يشارك فيها من هب ودب ويسهم في إيقاظ نيرانها كل أولئك الذين لا يرقبون في أمتهم أو ملتهم إلًّا ولا ذمة، وقد ابتليت أمم كثيرة في هذه الأمراض أدت إلى هلاكها وفشلها وذهاب ريحها وسقوط دولها وانهيار حضاراتها. والمسلمون اليوم يفتك بهم هذا الداء ويزيد في آثاره المدمرة أولئك الساسة الانتهازيون والمخادعون. لقد أدت الطائفية السياسية إلى تمزيق العراق وتدميره ودعوة المحتل المتربص لاحتلاله، وأدت في أماكن كثيرة إلى إراقة الدماء وقتل الأبرياء وتدمير المصالح، وها هي تفتك في سوريا الضحية الثانية للطائفية السياسية والبقية تأتي، أما في مصر فإن مصرَ على خطر عظيم، فالأحداث المتفرقة التي تجري بين الحين والآخر في هذا المكان أو ذاك إنما هي إرهاصات ومقدمات لخلق بيئة مريضة يمكن لجراثيم الطائفية السياسية أن تعشش فيها وتفرخ فيها، ولا ندري بعد ذلك كيف يكون مستقبل هذا البلد الذي فيه كل مقومات الوحدة بين شعبه وفيه كل ما يمكن أن يساعد على وأد الطائفية في وقتها. ونحن نتمنى من القادة وقادة الرأى و الإعلام أن يدركوا فقه الكلمة ومسؤوليتها وأن يتوقفوا عن إشعال هذه النزعة المنتنة؛ فإنها فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة، بل سوف يعم شررها وضررها. فلنتق الله فيما بقي لنا من بلدان هي أحوج ما تكون إلى عون الله لتستمر، ولعلها تستعصى على مؤامرات المتأمريين ومحاولات العداء والمتربصين.
إن الدين بريء من كل ما يمكن أن يؤدي إلى إنعاش هذه الظاهرة وإحياء هذه الفتنة أو إيقاظها؛ فالدين قد أمر الناس أن يدخلوا في السلم كافة، ويتجاوزوا العنف وأسباب الاختلاف والافتراق وأن يصبروا أنفسهم مع جيرانهم ومواطنيهم وإخوانهم وألا يسمحوا لدعاة الفتن الطائفية وحملة اتجاههات الطائفية السياسية بأن يضعوا خلالهم ويغروا بعضهم ببعض وأن يتجنبوا كل ما يؤدي إلى هذا النوع من الفتن؛ فإنها فتنٌ القاعدُ فيها خير من الماشي، والنائم عنها خير من اليقظان والمتجاهل لها خير من الموغل فيها. اللهم جنب بلادنا وشعوبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأزل دعاة الطائفية بكل ألوانها وانتقم اللهم منهم وجنب البلاد والعباد شرورهم وآثامهم.
ولكي نحقق ذلك، فإن شعوبنا في حاجة إلى أن تقوم فرادًا وجماعات كلٌّ بدوره في سد الثغرات التي لا بد من سدها لئلا تنطلق منها الطائفية وتفتك في جسم الأمة.
فما دور فصائل الأمة كلها في وأد الفتن الطائفية وتفويت فرص إشعالها على تجار الفتن والحروب الأهلية؟ … هذا ما سنحاول تناوله في حلقات قادمة.