مصر وثقافة السفينة
أ.د: طه جابر العلواني
استمعت للكثير من الأحاديث والتصريحات الصحفيَّة والتحليلات السياسيَّة والتنبؤات المستقبليَّة حول يوم ثلاثين يونيه وما يُنتظر فيه ومنه، وقد عزّ عليّ أن أرى المصريين على هذه الحال، المصريين الذين عرفتهم منذ الخمسينيَّات أهل هدوء وتريُّث وصبر وأناة وحكمة وبُعد نظر وإعلاء للقيم واعتزاز بالأرض وصبر على المكاره وشكر للنعمة وحرص على دوامها ورغبة في النأي بأنفسهم عن جحودها، إضافة إلى خصال كثيرة من أطيب الخصال التي جعلتني أصهر لهم، وأفضّل العيش بينهم على العيش في أي مكان آخر من الأرض المفتوحة أمامي.
إنَّ ما سمعته وقرأته عن ثلاثين يونيه لا أدري لما جعلني أشعر بكثير من ضيق الصدر والقلق من شهر يونيه كلّه، فجيلي لم ينس بعدُ يوم الخامس من يونيه؛ اليوم الذي تبخرت فيه طموحات جيل كان يقال عنه إنَّه جيل على موعد مع القدر، وما تلا الخامس من يونيه من أحداث العاشر من يونيه واستقالة الرئيس ورجوعه عن الاستقالة.
كان يعجبني في يونيه الهزيمة أو النكسة أنَّ كثيرًا من الآلاف التي طالبت عبد الناصر بالبقاء في مركزه رئيسًا للدولة كانت على وعي بأنَّه منهزم، وأنَّه لا ينبغي أن يسمح له بترك آثار العدوان، والانسحاب من الحياة السياسيَّة، والبعد عن تحمل آثارها، لقد كانت الجماهير التي تهتف بضرورة بقائه تريد أن تحمَّله مسؤوليَّة إعادة بناء ما تخرب وتهدم، ولكن فهم البعض موقف الشعب المصريّ فهمًا خاطئًا وظنوا أنَّ مظاهراته كانت من أجل تكريمه والتعبير عن الاعتداد بقيادته ولو أدت إلى الهزيمة، وأنَّ هذا الشعب لديه استعداد لتكريم قيادة الهزيمة، لكن الفلاح المصريّ العاديّ كان يقول بكل بساطة: ((خربت في عهده لابد إنّه يصلحها ويعيدها زي ما كانت ثم يمشي)). وحمله ذلك على التخطيط لتجاوز المحنة، وإزالة آثار الهزيمة أو النكسة، وأعطاه الشعب كل الفرص من أجل أن يحقق أهدافه، ويعيد بناء الجيش المصريّ والقوات المسلحة؛ ليستعيد الأرض والكرامة والتحرير، وبعد أن يفعل سوف يقبل الشعب استقالته.
هذا الموقف كان مليئًا بالدروس التي علَّمها الشعب المصريّ لجميع من راقبوا حركته، وكان ذلك الوعي منطلقًا أساسًا لحرب أكتوبر وللانتصار فيها، وكان يمكن أن تعمَّق ثقافة يونيه وتضم إليها المعالم الثقافيَّة التي يمكن اقتباسها من انتصار أكتوبر، لتشكّل ثقافة جيل جديد هو جيل الخامس والعشرين من يناير، لكنّني شديد الأسف أنّني لم أرَ أثرًا لثقافة يونيه في هذا الجيل الذي نعايشه، وما تزال دروس ثقافة يونيه ماثلة تحتاج إلى من يفعِّلها في نفوس المصريين، وإذا أريد تلخيص هذه الدروس قلنا:
إنَّ الدرس الأول: أنَّ الشعب كلّه كان متضامنًا في تحمُّل المسؤوليَّة عمّا حدث في يونيه، فلم يلقها على الحاكم الفرد وحده، ولا على أركان قيادته، بل تحمّل الجميع المسؤوليَّة وهم ينحنون أمام ذلك الشعب الذي استوعب كل عوامل الإحباط فيما جرى وعمل على تحويلها إلى بواعث ودواعيَ تهيئ لنصر قادم في أكتوبر، ولو لم يحدث ذلك لأحدثه ذلك الشعب بنفسه، وحقق إنجازاته.
الدرس الثاني: الحرص على السفينة أي الوطن والمجتمع، فالشعب –آنذاك- كان مشبعًا بثقافة السفينة المأخوذة من حديث رسول الله –صلى الله عليه وآله وسلّم-: “حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا زَكَرِيَّاءُ قَالَ سَمِعْتُ عَامِرًا يَقُولُ سَمِعْتُ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَثَلُ الْقَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللَّهِ وَالْوَاقِعِ فِيهَا كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَعْلَاهَا وَبَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا فَكَانَ الَّذِينَ فِي أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوْا مِنْ الْمَاءِ مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ فَقَالُوا لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا فِي نَصِيبِنَا خَرْقًا وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا فَإِنْ يَتْرُكُوهُمْ وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا جَمِيعًا وَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ نَجَوْا وَنَجَوْا جَمِيعًا“[1]، فكانت ثقافة السفينة مكونًا أساسيًا للعقليَّة والنفسيَّة المصريَّة.
الدرس الثالث: مهارة في تغيير الخطاب، فالملاحظ للخطاب الذي ساد في مصر بعد العاشر من يونيه كونه يرصد عشرات التغيُّرات فيه على جميع الأصعدة، فخطاب المرأة لم يعد خطابًا نسويًّا، بل تحوَّل إلى خطاب أم وأمَّة، وخطاب الدعاة وأئمة المساجد وخطبائها تحوَّل إلى خطاب إصلاح وتجديد ونهوض، وتذكير بالقيم العليا، وجعل المسجد والعبادة وسائل ترقية وعون على تجاوز الإحباط والفرقة والانشغال باللوم وإلقاء الناس التهم والتراجم فيها، فهذا يرجم ذاك، وذاك يرجم الآخر بتهم جزافيَّة لها ما يسوغها، ولكن كان العقل والإخلاص أقوى بكثير منها، وخطاب الليبراليين والفنانين كل ذلك قد تغير، ولا أذكر أنّنا كنا نسمع -آنذاك- أي خطاب فئويّ أو حزبيّ؛ لأنَّه لا صوت يعلو على صوت تحرير البلاد والعباد ودرء الأخطار عن الجميع.
كان عدد كبير من الإسلاميّين في السجون في الخامس من يونيه قد أرسلوا إلى عبد الناصر كثيرًا من البرقيَّات والطلبات لإخراجهم من السجون للقتال في صفوف الشعب والقوات المسلحة، مع تعهدات بأنَّ من سيعيش منهم سوف يعود إلى سجنه بنفسه، هذه الروح افتقدتها كمراقب عاش تلك المرحلة وما يزال يعيش اليوم وهو يراقب مرحلة أخرى، نعم كانت ثقافة السفينة حاضرة واستحضرها الجميع رجالًا ونساءً، إسلاميين وليبراليين، يساريين ويمينيين وسواهم، فأين هي؟
كنا نأمل من المثقفين المعتصمين في دار الأوبرا أن يطرحوا على أنفسهم وعلى الناس سؤال الإبداع في استخلاص دروس التاريخ لتصحيح الحاضر وبناء المستقبل. إنَّه لو وجدت ثقافة السفينة اليوم واستحضرت دروس يونيه لما ساد القلق في شمال الوادي، إنَّ مياه النيل أهم وأخطر من المطارات التي دمرت والطائرات التي حطمت في الخامس من يونيه 1967.
لو استحضرت ثقافة يونيه وانتعشت في هذه الأيام لما رأينا الوجوم يستولي على وجوه المصريين من مختلفي الأعمار، ويضع على وجه كل منهم غلالة أو سحابة قاتمة تشي بكل أنواع الخوف والترقب والهلع والتوقعات، أيُّها المصريُّون تذكروا يونيه 1967 واستحضروا ثقافته وأعيدوا بناء ثقافة السفينة؛ لتتجاوزوا حالة القلق، وتعبروا إلى ضفاف الأمان إن شاء الله.
والله معكم ولن يتركم أعمالكم.
[1] الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه، البخاري، تحقيق: محمد زهير بن ناصر الناصر، رقم الحديث (2493) 3/139.