Menu
منهجية التعامل مع التراث الإسلامي - مراجعة لكتاب من أدب الاختلاف إلى نبذ الاختلاف - أُمْنِيّة أهلِ السجود([1]) - The future of Islam in America and west - جانب من جلسات فريق باحثي الأزهر للعمل على وضع منهجية مراجعة التراث - حوار حول الربيع العربي - الإسلام والمسلمون من وجهة نظر غربية - برنامج اخترنا لمكتبتك - معالم في المنهج القرآني - ومضات فكرية

مصر والعراق…بين النيل والفرات

أ.د.طه جابر العلواني

 

عن بعض ما كان

إنّ الأمور التاريخية التي جمعت بين مصر والعراق كثيرة جدًّا. والتاريخ المشترك -بحلوه ومرّه وسِلْمه وحربه وهدوئه وصراعاته- تاريخ طويل عريق، وأبرز ما فيه في عصرنا هذا كون إسرائيل الحديثة اعتبرت بداية حدودها عند مصر ونهايتها عند العراق؛ لتقيم قوتها العظمي التي تريد أن تحكم العالم بها حسب أحلامها منذ ألف عام أو يزيد على ما بين النيل والفرات. فلا غرابة إذا ما وجدنا لكل ما يحدث في العراق «الفرات» صدى ما في مصر «االنيل» وواديه. كما إنّ ما يحدث في مصر لا بد أن يكون له صدى لما في العراق. وقد بدا ذلك واضحًا بداية من ثورة أحمد عرابي ونهاية باحتلال العراق من الأمريكان وحلفائهم. وحين قامت حركة الجيش المصري في 52 تجاوبت معها تحركات الجيش العراقي التي أنهت الحكم الملكي في العراق، وحين نادي عبد الناصر بـ«ـالقوميّة العربيّة»، كان العراق هو ثاني من استجاب له بعد الشام.

وإذا كان الملك عبد العزيز -يغفر الله لنا وله- قد أوصى القادة من أبنائه أن يجعلوا من مصر دائمًا عمقًا استراتيجيًّا للسعودية، ويحافظوا على أوثق العلاقات وأمتنها، فإنّ شعب العراق كله قد رضع مع ألبان الأمّهات أنّ الشعب المصري امتداد وعمقٌ له؛ فلا يمكن أن تقل العلاقات بين الشعبين بحال من الأحوال عما يقرب من «الاتحاد» إن لم تتحقق «الوحدة». وكل مَنْ له نصيب -كثر أو قلّ- في التفكير الاستراتيجي يرى أنّ العراق ومصر كل منهما يشكّل سياجًا حاميًا للقلب العربي من الشرق ومن الغرب؛ ولذلك فإن الشعب العراقي ثار على حكومته أثناء العدوان الثلاثي، وانتهت ثورته تلك في الرابع عشر من تموز/يوليو بالإطاحه بالحكم الملكي كلّه، واستبدله به الجمهورية، وأبرم مع مصر وسوريا اتحادًا كان يمكن أن يغير المستقبل العربي كله لو نجح واستمر.

وفي عام 1967م قاتلت القوات العراقيه إلي جانب القوات المصرية، ولو بقوات رمزية، ولكن نستطيع أن نقول اختلطت دماء العراقيين والمصريين عند قناة السويس، وكان العراق يريد أن يشارك مشاركة كاملة مع القوات المصرية لولا أن الرئيس الراحل عبد الناصر أرسل زكريا محي الدين إلى الرئيس عبد الرحمن عارف يخبره بأنّ القيادة المصرية لا تتوقع حربًا مع إسرائيل، ولكن لو وقعت الحرب وبدأتها إسرائيل فإن القوات المصرية وحدها قادرة على إنهاء وجود الدولة الإسرائيليّة، لكن إذا أردتم أن ترسلوا قوات رمزية للمشاركة في احتفالات النصر عندما تخضع إسرائيل للمطالب المصرية فنحن نرحب بذلك. كان ذلك في لقاء زكريا محي الدين مع عبد الرحمن عارف في بغداد في الأسبوع الثاني من مايو على ما أذكر، ولذلك اقتصر على إرسال تلك القوي الرمزية، وكان من بعض قيادتها آنذاك الملازم قيس عبد الرحمن عارف وخاله ملازم لا أذكر الآن اسمه. المهم أنّ المصريين والعراقيين كانت بينهما أواصر متينة وقوية. وحين عقد نور السعيد حلف بغداد وضمّ إليه إيرا ن وتركيا وباكستان، ولم تنضم إليه مصر لمعارضة عبد الناصر للحلف، غضب العراقيون غضبتهم التي انتهت بالإطاحة بالنظام كله وتفكيك الحلف.

وفي سنوات حكم صدام حسين، ورغبة منه في تعزيز عروبة العراق وتأمين حدودهِ باعتباره البوابة الشرقية للمحيط العربي، فتح أبواب العراق للعرب كافة. وللمرة الأولى صار أي عربي يدخل القطر العراقي يتمتع بالحقوق التي يتمتع العراقي نفسه بها، فله أن يدرس ويتعلم مثل العراقي، ويملك الأرض ويعمل ويكسب ويحوّل مداخراته إلى بلده. بل أعطى العرب الوافدين أكثر من حقوق العراقيين؛ فكان طلبة العرب يدرسون الطب والهندسة ويتقاضون رواتب مع الدراسة ويتقاضون رواتب مجزية مع الإعفاء من جميع الفروض الدراسيّة. ولأول مرة شعر العرب أن هناك قطرًا عربيًّا لا يفرّق بين مَنْ ولد فيه من العرب وأي عربي آخر من أيّ قطر جاء، بل قد ينال أفضلية في كثير من النواحي عن أبناء البلد. وقد خُص المصريون بعناية خاصة حتى صار عددهم في العراق ما يزيد عن خمسة ملايين؛ مما أقلق الجارة إيران والجيران الآخريين المشاركين في هذا الإقليم، خوفًا من أن يحدث تغيير ديموغرافي كبير لصالح عروبة العراق وسنيّته.

الآن..

ثم انتهى حكم صدام، وأُخرج المصريون من العراق وكذلك بقية العرب بطرق يعرفها الجميع، وكان نصيب العراقيين تشريدًا وتقتيلًا وتشويهًا وحبسًا؛ أثناء الاحتلال وبعده. وانتشر ملايين من العراقيين -وخاصة العرب السنّة- في مختلف بقاع الأرض، حتى لجأ بعضهم إلى أندونسيا وماليزيا وبلدان أخرى من جنوب شرق آسيا وسواها، وكانت هناك أسر عراقيّة عزيزة كريمة في تاريخها لا تستطيع أن تلجأ إلا إلى دول الجوار، فكان الكثيرون يتجهمونها ولا يرحبون بها، وقد يعيدونها أدراجها ولا يسمحون لها بالدخول، ولولا الأردن وسوريا لكان المصاب أكبر بكثير. لكن العراقيين -بحكم حبهم لمصر ومشاعرهم الإيجابية تجاهها- يفضلون مصر على غيرها لدراسة أبنائهم وتربيتهم واطمئنان أسرهم وتمتعها بالأمن والسلام الذين نسأل الله تعالى أن يديمهما عليها، ويحفظهما، ويجعلها دائمًا أبدًا بلد أمن وسلام ودار طمأنينة واستقرار، لكن الملاحظ أنّ هناك تشديد مقصود بدأ في عهد الرئيس المخلوع يحول بين العراقيين وبين دخول مصر، حتى إنّ أحد العراقيين قال: “قد يُقبل طلبي لدخول الجنة عند الله، قبل أن يُقبل طلبي للحصول على تأشيرة لدخول مصر!”. وذهب الرئيس المخلوع وانتصرت الثورة وظنّ العراقيون وغيرهم أنّ مصر سوف تفتح أذرعها لاستقبال المظلومين والمضهدين والمستضعفين من أبناء العراق، ولكن ما تزال التشديدات التي تحول بين العراقيين وتأشيرات الدخول إلى مصر قائمة، بل تزداد تشددًا، حتى إنّ كثيرًا من العراقيين يصلون إلى مطار القاهرة ومعهم تأشيرات دخول لم تقترن ببعض الموافقات الأخرى فيُعادون إلى العراق بعد ساعات طويلة من الانتظار والقلق، وبعضهم يُعادون من حيث أتوا مما جعل العراقيين يشعرون بخيبة أمل.

إنّ إسرائيل حين كرست نفسها دولة لليهود صار من حق أيّ يهودي في العالم يصل إلى حدودها بطريق الجو أو البر أو البحر أن يحصل وهو في المطار -لا على تأشيرة دخول أو إقامه فحسب- بل على جميع الوثائق التي تُثبت أنه مواطن إسرائيلي، إضافه إلى سكن مؤقت إلى أن يتم استيعابه. لكنّ العرب لا بواكي لهم، وما من بلد عربي يستطيع العربي أن يجده اليوم مفتوحًا له ويكون مرحب به فيه، وكذلك الحال بالنسبة لبلدان المسلمين، وهاهم أبناؤنا يموتون غرقًا في البحار أو هلاكًا وهم يقطعون الأميال طمعًا في الدخول إلى بلد أوروبي أو غيره، لعلّهم يجدون فيه لقمة عيش كريمة أو فرصة عمل. ولو أنّ البلدان العربية فتحت أبوابها وألغت تلك القيود الجائرة التي فرقت بين أبناء العروبة والإسلام، ولا نقول تسوي بين أبنائها المولودين فيها والوافدين إليها من العرب والمسلمين، بل تعطي لأبنائها ما تشاء من امتيازات وتسمح لإخوانهم وأبناء جلدتهم دخول أراضيها والعمل فيها والحصول على عيش كريم بها؛ لأن الله قد قدر في الأرض أقواتها، ولا ينال أحد رزق سواه، ولا يضيق عليه في عيشه، وما تتعرض له بعض الشعوب اليوم قد تتعرض له شعوب أخرى؛ ولذلك فإنّنا نأمل أن يراجع العرب والمسلمون سياسات الجوازات وتأشيرات الهجرة والدخول والإقامة بما يحقق معاني الأخوة.

وها هو شعبنا في سوريا تجوب حرائره وأبناؤه مختلف البلدان بحثًا عن مأوى أو مشفى يعالجون فيها، والاستجابة ما تزال ضعيفة جدًّا تجاه المطالب الإنسانية لأبنائنا وبناتنا في سوريا. ولقد قرأت بأسى شديد خبر تلك الحرة من فتيات سوريا ذات السبعة عشر ربيعًا أمام المصلين في أحد الجوامع تعرض نفسها على أيّ راغب في الزواج؛ دون أي شروط تتجاوز تمكينها من إطعام وكسوة إخوانها وأخواتها الأربع الذين فرّت بهم من بلاد الشام، فمَنْ لهؤلاء الحرائر ومَنْ لأولئك الأيتام وأسر الشهداء وجرحى الأخوّة والأبناء؟

اللهم هيئ لهذه الأمّة أمر رشد، وأرها الحق حقًّا ووفقها لاتباعه، وأرها الباطل باطلًا وارزقها اجتنابه.. والله من وراء القصد.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *