Menu
منهجية التعامل مع التراث الإسلامي - مراجعة لكتاب من أدب الاختلاف إلى نبذ الاختلاف - أُمْنِيّة أهلِ السجود([1]) - The future of Islam in America and west - جانب من جلسات فريق باحثي الأزهر للعمل على وضع منهجية مراجعة التراث - حوار حول الربيع العربي - الإسلام والمسلمون من وجهة نظر غربية - برنامج اخترنا لمكتبتك - معالم في المنهج القرآني - ومضات فكرية

خواطر في المسألة العراقيّة

أ.د. طه جابر العلواني

إن الجيل الذي أطلق على نفسه “المعارضة العراقيَّة” قد وصل مرهقًا منهكًا إلى ما عرف “بالمنطقة الخضراء” أو مركز الحكم ومساكن قادة البعث في العهد الصدامي، تلك المنطقة التي شكّلت جزءًا أساسيًّا من “كرادة مريم”. ومنح القادة الأمريكان حمايتهم للمجموعة المنهكة المتعبة التي استطاعت بما بقي لها من طاقة أن تمتطي ما تيسر للوصول إلى تلك البقعة من “كرادة مريم”.

جاؤوا جميعًا بثقافة تجميع العناصر والأزلام بشكل قائم على شعارات التحريض الطائفي والعنصري مضيفين إلى ذلك قدرات وإمكانات التعامل مع رجال مخابرات دول عظمى وصغرى، حتى قال رئيس وزرائهم الأول “علاوي” حين قيل له: أنه متهم بالعمالة لـ C.I.A قال: هؤلاء مخطئون “إنه عميل لثلاثين دولة لا لدولة واحدة…” فالرجل قال ذلك مفاخرًا لأن العمالة للأمريكان وغيرهم طاقة وقدرة وذكاء، فهي (أي العمالة) من أهم المؤهلات في العالم لتسلّم مواقع القيادة. إنّ المعاناة المتعددة الجوانب وهذه التوجهات جعلت هؤلاء جميعًا يتجهون إلى عملية تقاسم للغنائم بشعة. وهل كانت الغنائم سوى هذا العراق المسكين أرضًا وشعبًا وموارد وتاريخًا، وهكذا تعرضت وحدة العراق الوطنية الهشّة لاختبار وتحدٍ لا قبل لها به.

لم تكن سائر المناصب لها أي مقياس إلا مقياس واحد : هو استيعاب أكبر عدد ممكن ممّن يُرجى خيرهم أو يُتَّقى شرُّهم طائفيًا وعنصريًا. الفرديَّة صفة أخلاقيّة اجتماعية ملازمة لواقع التخلف حيث تبدو التجزئة والانشطار ظواهر طبيعية في كل عناصر التركيبة الاجتماعيّة.

إنّ الفرديّة تنجم عن إحساس الفرد بقدراته الذاتية المبالغ في تقديرها، فيفقد الإحساس بالحاجة إلى تقسيم العمل وتكامل التنوع في الوحدة الأعم.

إن العراق بلد كان يعيش وحدة سطحيّة في تنوع أقوى في جذوره ومظاهره وآثاره من تلك الوحدة الهشّة. ولقد كان يعيش تخلفًا أقوى بكثير من تلك المظاهر القشريّة للحداثة والتحديث، وقيادة بلد كهذا أعقد بكثير من قيادة أي بلد آخر.

لقد شاءت الخلفيّات التاريخيَّة والخلفيات المعاصرة أن تجعل الشيعة العراقيّين في واد والسنَّة في وادٍ آخر في ظل الصراع العثماني الصفوي. بل شاءت تلك الخلفيّات أن تجعل العرب السنّة في وادٍ والكرد السنة في وادٍ. والشيعة العرب في واد والشيعة من غيرهم في وادٍ آخر، والسنة العرب في واد والسنّة الكرد في وادٍ آخر. واستمرت تلك الانشطارات حتى الاحتلال البريطاني وهكذا أصبحت العناصر التي يتألف منها نسيج هذا البلد عناصر تمثل شركاء متشاكسين إذا التقوا فلا يلتقون إلا في حفل عزاء انتظارًا لقسمة التركة أو قسمة المغانم أو التركة التي هي العراق.

وقد يقول قائل: وأين هم المثقفون العراقيّون وما أكثرهم؟ فأقول: لقد توزعتهم الطوائف والقبائل، والأحزاب التي كانت أشبه بالدكاكين التي فتحت لعل المحتل يلتفت إليها، وينفحها بشيء من الأسلاب؟

وأين أصحاب المبادئ؟ لقد كانوا أسوأ نماذج الانتهازيّة حيث تم استقطابهم بيسر وسهولة ليكونوا حلفاء لإدارة الاحتلال، ففي عهد صدام كان عملُ المثقفين هو التسكع على أبواب دول البعد ودول الجوار التي تتقاطع مصالحها ولو بشكل آنيّ مع مصالح صدّام طمعًا في الانضمام إلى صفوف مخبريها ونيل بعض العطاء منها.

هل المرحلة التي نقل الاحتلال العراق إليها هي مرحلة “الوطنية الديمقراطيَّة”؟

إن هناك عدوين لتقدم الشعوب: الاستعمار والاستغلال. لقد كان خيار المثقف الشيعيّ والكرديّ الاستعمار والاستغلال، وكان خيار بقايا التيَّار السني الالتفاف حول صدام.

وفيما بين ليلة وضحاها تحول المثقف إلى زعيم لطائفة وشيخ لقبيلة. لقد تم تفكيك عناصر الحركة الثقافية والسياسية تفكيكًا تامًا، ورجع الاحتلال بها إلى المرحلة القبليّة والطائفيّة، بحيث تدار تلك الوحدات من قبل قياداتها التقليدية لا يربط بينها رابط إلا علائق جوارٍ غير محترم.

“إنّ هناك من يسوِّغ عمليات اللجوء إلى القيادات الدينية بأن البلد في جهل وأميَّة يعيش حالة فقدان الثقة… فلا يمكن أن تثيره أو تقوده إلا الزعامات والقيادات الدينية والعشائريَّة.

“… إنّ من الصعب إن لم يكن من المتعذر أن نفهم ما يجري في العراق دون الرجوع إلى “جدليّة التركيب العراقيّ” لنكتشف بها خلفيّة وخصائص هذا الشعب ، دون إغفال للأبعاد الجغرافيَّة وآثارها في السياسات التي تحكمت في هذا البلد. كذلك لا بد لنا من معرفة البنية التاريخيَّة والحضاريّة وأطرها الاجتماعيّة وتحولاتها الاستراتيجية. هل نستطيع أن نجد متغيرات نوعيّة في حالة شعبنا العراقي في تطوره السياسي منذ ثورة 9 شعبان مرورًا بثورة العشرين؟

إنّ العراقيّين في حاجة إلى أن يجعلوا من تركيبتهم المتنوعة قوَّة وقدرة إضافيَّة وإمكانيَّة لإيجاد الفاعليَّة التي تمكنهم من الإقلاع والانطلاق بدلاً من أن يستمروا يتخبطون في شراك الانفعال الساذج بها.

إنّنا معشر العراقيّين حين نتحرى الدِّقة في وصف أنفسنا، بقايا ماضٍ لم نستطع أن نتبيَّن الخط الفاصل بينه وبين الحاضر فضلاً عن المستقبل، فوجدنا أنفسنا هاربين من حاضرنا ومن مستقبلنا باتجاه ماضينا لنستحييه، ونعيش فيه، فهو مصنوع جاهز هيّأه لنا الآباء فلا يحتاج إلى معاناة الإبداع أو مكابدة البناء يكفي أن ننفض عنه الغبار، ثم نمارس الحياة فيه؛ ولذلك فسرعان ما رجعنا إلى انقساماتنا التقليدية عرب وأكراد وتركمان، شيعة وسنة، مسلمين ونصارى وصابئة ويزيديين، كما كان يردد المهداوي بعد أن يعدّد حتى يعييه العد، فيختم بعبارته الشهيرة: “.. وسائر الأقليّات الأخرى”. وكلّها كتل بشريَّة لم تتعرض لأي نمو أو تطور أو تغيُّر يذكر تعد الطائفيّة، والقوميَّة الغامضة الهلاميَّة درعًا نتحصن به ضد القريب والبعيد.

ولقد ذكّرني حال العراقيّين –اليوم- بكلمات كنت قد قرأتها في أحد كتب توفيق الفكيكي، نسبها إلى مذكرات _لم تُنشر_ لفيصل الأول، أعجبتني أيام كنت في عشريناتي فحفظتها. يقول فيصل الأول: “… أقول والأسى يملأ نفسي: ليس هناك شعب عراقيٌّ بمعنى الكلمة لكن هناك كتلٌ بشريَّة متطاحنة، لا جامعة تجمعها، ولا رابطة تربطها يتشدقون بالقوميَّة والطائفيَّة، وليس لهم منها شيء، ميّالون للفوضى محبّون للسوء، مستعدون للانقضاض على أية حكومة مهما كانت…” أ.هـ. وقد علّق توفيق الفكيكي على هذه العبارات تعليقًا قاسيًا، ولام الملك فيصل الأول على رأيه في شعبه واعتبره متجنّيًا على شعبه.

ولو عاش السيد الفكيكي إلى اليوم لأدرك أن فيصل لم يكن متجنيًا بل كان ذا ذكاء فطري ساعده على تشخيص حالة شعب، لم يستطع بعد أن هزم بريطانيا أن يتفق على نظام يرتضيه، وقيادة تحكمه فجيء بفيصل؛ ليؤدي هذا الدور ويلمّ شمل ذلك الشتات.

كيف للعراقيّين –إذن: أن يستوعبوا بوعي وقدرة وفاعليَّة تركيبة بلدهم لتحويل هذه التركيبة إلى طاقة وإمكانيَّة. كيف نؤثر فيها بدلاً من أن نتأثر بها؟: إنّنا نعيش قوميّات هلاميَّة بعد انتهاء عصر القوميّات، ونتشبث ببقاياها، وهي تستعصى على التحمل، وتأبى على الانفتاح.

إنّنا نعيش حالة تشيُّع عجيب لم يكن معروفًا في سائر عصور التشيُّع التي عرفها التاريخ؛ فهو تشيُّع يستعصى على التحليل، وتتأبى مواقفه على التفسير فما هو بالتشيُّع العربيّ الذي عرفناه في صدر الإسلام، ولا بالتشيُّع الصفويّ الذي عرفناه –أيضًا- في العصور المتأخرة، وسنيَّة تتذبذب بين ماضويَّة تصفها بأنّها سلفيَّة، وبين مذهبيَّة وحزبيّة متنوعة تصادر الحاضر باسم الماضي، وتدمر المستقبل انطلاقًا من الماضي كذلك وبين حداثة قشريَّة صدفية تهيمن على الجميع بوسائل وأدوات مجمَّعة لا تنتمي إلى أية منظومة حداثيَّة، إلا بأشكال باهتة. فنحن ننتمي إلى تلك الشعوب التي لم تعد لها معالم محدّدة، إنّنا حطام لبقايا حضارات سادت ثم بادت دون أن تبيد آثارها فينا، وصور حداثة لم تستطع النفاذ إلى واقعنا فبقيت تعيش على سطح حياتنا كورد النيل الخانق للأحياء التي تعيش في داخله.

إنَّ أيَّة قوة من القوى المنتمية إلى هذا الشعب يجب أن تُدرس في إطار حركة الواقع الموضوعي وضمنها، ودراسة الواقع الموضوعي قد تحملنا ونحن نحاول فهمه إلى تجاوز نظريّات التغيير الاجتماعي، والنظريّات التي تنطلق منها.

فحين ينادي المثقف الديمقراطي الإداريين بصياغة أطر تنظيمية، لتخدم قضية التحولات الديمقراطية يجد نفسه للارتباط بالطائفيّة والعنصريَّة والعسكريّة لتحقيق حالة التحوّل نحو الديمقراطية. وهذا ما يفسر لجوء أمريكا إى استحياء الطائفية وحماية العنصرية وتدعيمها، وكذلك العشائريّة، والتواصل مع النظم الرجعية والدكتاتوريَّة السائدة، لأنها تراها الأقدر على تحقيق الديمقراطية!! من القوى الديمقراطية ذاتها. أو من ذلك المثقف العضويّ، وخاصَّة الإسلاميّ.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *