أ.د.طه العلواني
العالميّة من خصائص أمتنا الذاتيّة، وهي محدِّد منهاجيّ من أهم المحدِّدات المنهاجيَّة القرآنيَّة تتَّصل بسائر المحدّدات الأخرى، ولا تنفصل عنها. كما إنَّها محدّد أصيل يستند إلى “الرؤية الكليَّة” للكون والإنسان والحياة بشقيها الدنيويّ والأخروىّ، وخالق ذلك –كلّه- ولذلك فإنّها تجسد هذا المحدّد –بوضوح- في العقيدة والشريعة وسائر نظم الحياة، بحيث صار سمة حضاريَّة، ومعلمًا وتوجُّهًا ثقافيًّا بارزًا لا يمكن تجاهله أو تجاوزه أو المساس به. فكل ذلك- لو حدث- فسيبدو نشازًا لا يقبل على مستوى العامَّة فضلاً عن مستوى الخاصَّة.
و”العالميَّة” محدِّد يرتبط بالأمَّة أكثر من ارتباطه بالدولة: فالدولة قد تكون انعكاسًا أو تجليًّا لتوجُّه “العالميَّة” في الإسلام، لكنّ الدولة بمسئوليَّاتها المباشرة عن “الجماعة السياسيَّة” التي تنبثق عنها قد تضيق أو تصغر عن استيعاب “العالميَّة”؛ ولذلك فإنَّ ارتباطها “بالأمَّة” هو الأساس، والأمَّة تستطيع أن تجعلها من بين مقاييسها لالتزام الدولة وحسن أدائها، فإن راعت الدولة عالميَّة الرسالة، تمثَّل ذلك في سياساتها، فذلك يشير إلى وعيها بذلك البعد ومراعاتها له.
و”العالميَّة” حين تكون مسئوليَّة “الأمّة” وواسطة العقد في خصائصها لابد للأمَّة أن تعدَّ لها عدَّتها: فالعالميَّة ليست شعارًا أو فضيلة، بل هي خاصيَّة داخلة في كليّات التكوين العقليّ والنفسيّ للأمَّة “كالخروج والوسطيَّة” وداخلة في خصائص الأمة الذاتيَّة- كما أشرنا- ومن هنا يمكن للأمَّة أن تنظر ما إذا كانت الدولة عائقًا يقف دون عالميتَّها، أو أنّها إمكانيَّة. بل إن فلسفة الدولة نفسها –تتأثّر بشكل كبير “بالعالميَّة” حيث تؤثّر في دستورها وقوانينها ومؤسّساتها وتنظيماتها، ونظرتها إلى مواردها واقتصاديّاتها، وإعلامها وثقافتها، والقواعد التأسيسيَّة لحضارتها، وسائر سياساتها.
و”العالميَّة” تقوم على الفعل، لا على الانفعال، فالانفعال يفقدها حركيَّتها وديناميكتَّها وينقصها من أطرافها. و”العالميَّة” ترتبط بخصائص الأمَّة باعتبار الأمّة “كيانًا حيويًّا يتمتّع بذاتيّة واستقلاليّة”.
الأمّة المخرجة
ونعني بذلك أن تكوين هذه الأمَّة قد بدأ في الحرم وقد رعى الله –جاعل الحرم حرمًا عمليّة بنائها بالوحي من البداية. ولعالميّة رسالة الإسلام وعمومها وشمولها كانت الأمَّة المكوّنة بهذه الرسالة ومن أجلها أمَّة مخرجة إلى العالم –كلّه- برسالتها وبنموذجها، فكانت الأرض –كلُّها- ميدانًا فسيحًا تقدم في أي ركن من أركانها نموذجها ورسالتها؛ و”الحرم” قبلة، وليس وطنًا؛ لذلك فعلاقة هذه الأمة بالأرض هي علاقة الإنسان بالدار، لا بالوطن في مفهومه في الدولة القطريًّة أو القوميَّة. وحين أرسى بعض الفقهاء لأسباب فرضتها ظروف معيَّنة واقع دوليّ خاص مفاهيم “دار الحرب ودار الإسلام ودار العهد” فإن هذا كان تصنيفًا واقعيًّا استجاب به الفقهاء لمتطلّبات ذلك الواقع، فهو تصنيف واقعيّ يستجيب لأوضاع سياسة عالمية استثنائية!
ولذلك فسرعان ما اقترح فقهاء آخرون بديلاً له أنسب منه حيث استبدلوا مصطلح “دار الدعوة” بدار الحرب، و “دار الإجابة” بدار الإسلام، ومصطلح أو مفهوم “أمَّة الإجابة” بالأمَّة المسلمة، و مصطلح “أمَّة الدعوة” بالمشركين والكفار. وإذا كانت المفاهيم السابقة فيها معنى الحكم و التقييم، وقد تشي بضرورة اتخاذ موقف من هؤلاء فإن في المفاهيم البديلة إشعارًا للأمَّة المسلمة بمسئوليّتها عن الآخرين وضرورة العمل على إشراكهم بما فتح الله به على هذه الأمَّة من الهدى والنور والحكمة، فذلك واجبها، ومظهر أساس من مظاهر مهمَّة “الشهادة” التي أنيطت بها. وهذه الشهادة حضور بالقيم بكل مراتبها، والمقاصد الشرعيّة بأنواعها بين الأمم –كلّها- التي أخرجت الأمَّة المسلمة لتقدم نفسها نموذجًا لها يعينها على أن تنحو نحوها.
وإذا كانت الأمَّة المسلمة مخرجة إلى الأرض –كلِّها- نموذجًا قائمًا بمهام الشهادة. فإن هناك أمَّة أخرى –في المقابل- كانت “أمّة مدخلة” مهمتها الدخول إلى الأرض المقدسة، وإقامة نموذج خاص حصريّ هو “الأمّة اليهوديّة المدخلة” إلى الأرض المقدّسة لبناء شعب بقيادة رسول نبيّ هو سيدنا موسى-عليه السلام- الذي مثل إضافة إلى نبوّته ورسالته صفة قائد قوميَّ أنقذ قومه من ظلم فرعون الذي كان يذبِّح أبنائهم، ويستحيي نسائهم، ويتخذ ذلك الشعب –كلّه- خولاً وعبيدًا، فارتبطوا بالأرض المقدَّسة –حيث استمدت الأرض قداستها من “حاكميَّة الله” المباشرة لذلك الشعب الذي منح من الخوارق ما لم يمنحه شعب آخر. بناء على تلك الحاكميَّة –التي تختلف –كما لا يخفى- عن أيَّة حاكميَّة أخرى.
الشهادة
كان الرسول ((rشاهدًا على الناس، ونقل الله –تبارك وتعالى- هذه المسئوليَّة مسئوليَّة “الشهادة” بعد رسول الله ((r إلى الأمَّة التي صارت مسئولة عن الحضور بين أمم الأرض برسالتها وخيريَّتها وكونها مسئولة عن ملاحظة القيم، وخطوط الاستقامة والانحراف ، وتقويم الاعوجاج بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الخيرية
والخيريّة هنا لا ترتبط باحتلال موقع المركز، أو بلوغ مستوى أعلى في التنمية، والإنتاج، أو أن تصنف صناعيًّا في العالم الأول- وإن كان ذلك كله مطلوبًا- بل هي خيريّة ربطت ربطًا محكمًا بالإيمان.
وبالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. و”المعروف”: يشمل جميع خصال الخير. و”المنكر”: يشتمل على سائر خصال الشر والانحراف. ولا تقوم الأمَّة بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر إلا بعد أن تكون قد تحلّت بسائر خصال المعروف، واجتنبت سائر الخصال المنكرة في سائر جوانب نظم الحياة. إذ إنّ الله -تبارك وتعالى- قد نحى باللائمة على أولئك الذين يقولون مالا يفعلون، ويأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم؛ قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ*كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (سورة الصف: الآيات 2-3). وقال: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ (سورة البقرة: آية 44). ومن هنا فإنّ من المتوقع من هذه الأمَّة أن تتخذ من المعروف والبر والعمل الصالح سلوكًا لها، لأنّها إذا لم تفعل فلن تتمكن من أمر الناس بذلك أو الشهادة عليهم ولهم به. وإذا لم تتخذ من تجنُّب المنكرات سلوكًا لها وسبيلاً، فذلك قد يسلكها في عداد الذين يخالفون الناس إلى ما ينهونهم عنه. وذلك يعرقل ويخل بمهامها المذكورة.
الوسطيّة
ووصول هذه الأمّة إلى “الوسطيَّة” لم يأت فجأة أو بدون مقدمات، بل كان جعلاً إلهيًّا مر بمراحل، في مقدمتها الإيمان والشهادة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأنّ “الوسطيَّة” هنا تعني “الخيريَّة” وزيادة. فالخيريَّة نجد الكثير من الدلائل اللِّسانيّة عليها، منها قوله: “همو وسط يرضي الإله بحكمهم”. إنّ لفظ “الوسط” يحمل مضمونًا إيجابيًّا يتضمن الإشارة إلى الاعتدال والتوازن الداخلي والتوازن مع الخارج. والأمة المسلمة وسط بالنبوّة الخاتمة بين مرحلة تتابع النبوات وختم النبوة بالنبيّ الخاتم، ومرحلة حاكميَّة ونبوة الكتاب بقراءة بشريّة.
فالوسطيَّة تدل على الخيريّة، وتزيد عليها بما يوحي به المعنى اللُّغويّ للوسط: بأن وقوف الأمّة في موقع “الوسط” يجعلها تلتفت إلى الطرفين من حولها: فهي تنظر من موقع الوسط الذي تحتلّه إلى يمينها فترى أممًا فيها جوانب خيرِّة تقوم الأمَّة الوسط بإنمائها وتزكيتها، والتشجيع على مزيد من الالتزام بها، والمحافظة عليها وزيادة مساحتها. فإذا نظرت إلى يسارها ورأت تجاوزًا للقيم، وتجاهلاً لخصال الخير، وشعب الإيمان، فإنّها تستنكر ذلك، وتحذر منه، وتبينِّ مخاطره؛ لا انطلاقًا من الشعور بمركزيّتها أو سيطرتها، بل انطلاقًا من خروجها وشهادتها ووسطيَّتها.
أمّة فريدة
هذه الخصال والخصائص تجعل من هذه الأمَّة ظاهرة فريدة، بل معجزة لا توجد ولا تتحقق بعيدًا عن أصول ومصادر النشأة والتكوين الأولي التي منحتها تماسكها الداخليّ، وانفتاحها على الخارج بكل ما فيها من مقوّمات الجذب والاستقطاب ومن هنا تصبح “العالميَّة” صفة ذاتيَّة لا تفارقها، ولا تنفصل عنها بحال. إن رسول الله (e) خلّف من بعده الأمَّة تحمل مهام الشهادة على الناس، وهي التي تقوم على الرسالة من بعده، وتحمل راية القرآن.
أما “النظم” فإنَّ أمّة الأمم هذه أو “الأمَّة القطب” –هي التي ترسم وسائلها وأدواتها وهياكلها، ومقوّماتها وفقًا لخصائصها ومهامها، فذلك –هو الذي يحفظ لها انفتاح نسقها وحركيَّته ومرونته وقدرته على أن يمنح هُوِيَّته المباركة لمن يتوق إلى حملها، والانتماء إليها. فدوامها وبقاؤها واستمرارها وقدرتها على أداء دورها، ذلك كلّه لا يتوقف على النظام، بل على الكتاب الإمام.
إن “العالميَّة” تقتضي وتستلزم العمل على صناعة “قواعد للتفكير الإنساني المشترك” والتصديق والهيمنة على ما أفرزه العلم والمنهج التجريبيّ منها. فالعالم بعد انتشار “القواعد المشتركة للتفكير الإنسانيّ” بدأ يتقارب، ويلتقي على تلك القواعد المشتركة. وقد بدأ يتردد كثيرًا أن العالم صار بمثابة قرية كبرى؛ والحق أن أيَّ تغيير في حجم الأرض ومساحتها لم يحدث، لكن تأثير هذه القواعد. أعني “قواعد التفكير الإنساني المشترك” صار يقارب بين الناس، ويوسِّع مساحة المشتركات بين البشر، ويضيِّق مساحة الخصوصيّات المثيرة للاختلافات ومع ذلك فإن هذه القواعد لم تستطع القضاء على الحروب والنزاعات في العالم.
نعم إنّه بمقتضى هذه القواعد يوصف الشيء- عالميًّا بأنّه “علميُّ أو غير علميّ”. وبمقتضى هذه القواعد صارت تؤسّس النظريّات السياسيَّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة؛ ففي القرن الماضي طرحت “الاشتراكيَّة” حلاً لسائر الأزمات الاقتصاديَّة في العالم على اختلاف أديانه وحضاراته وثقافاته. وقد تبنتَّها أقطار تتعارض “الاشتراكيَّة” ودياناتها وشرائعها ومعتقداتها. وتعرّض المعترضون عليها للكثير من وسائل القمع والاضطهاد.
والآن تروج مؤسّسات “العولمة” للنظريّات اللّيبرالية والديمقراطيّة والوضعيَّة والعلمانيَّة، وتقدَّم –كلها- باعتبارها حلولاً لمختلف المشكلات. ليس ذلك فحسب ولكن بروز “قواعد التفكير المشترك” همّشت الأفكار المنبثقة من الخصوصيَّات الحضاريّة والثقافيَّة، وحاصرتها. كذلك همَّشت “التجارب الذاتيَّة” للشعوب والأمم، فحين تتقدم أيَّة أمَّة من الأمم إلى عالم اليوم بأفكارها الخاصّة، أو تجاربها الذاتيَّة فستحاكم تلك الأفكار والتجارب الذاتيَّة إلى القواعد الفكريّة المشتركة –التي لم يعد فيها موقع للأفكار التي صيغت بعيدًا عن العلم والمنهج العلميّ.
و”العالميَّة” القرآنيَّة، و”عالميَّة الإسلام” إذا أرادت الوصول إلى العقل الإنسانيِّ المعاصر فلا مناص من استيعاب القواعد العلميَّة المعاصرة وقواعد “المنهج العلميّ” وتقديم نفسها على مستوى السقف المعرفيّ الراهن بل عليها أن تقوم وإعجازه وتحدِّيه بالقرآن المجيد باعتباره الكتاب الكونيّ المعادل للوجود الكونيّ وحركته، القادر على التصديق على العلم والمنهج العلمي، واستيعابه وتجاوزه بعد ترقيته، وإعطائه البعد الكونيّ. في هذه الحالة يمكن للمسلمين أن يكونوا شركاء فعليِّين بتقديم قواعد تفكير قرآنيّة تستطيع الإنسانيّة أن تتبنَّاها، وتشق هذه الأفكار طريقها إلى العقل الإنسانيّ، وتتمكن الإنسانية –آنذاك- من اكتشاف القرآن المجيد باعتباره مصدرًا كونيًّا قادرًا على تقديم حلول علميَّة، منهجيَّة على مستوى كونيّ لمشكلات العالم. ولعل بناء “قواعد إسلاميَّة للتفكير الإنسانيّ المشترك”، ثم العمل على حضّ العالم على تبنيها، وإقناع الشعوب بجدواها وأفضليَّتها على ما عداها- ممّا يمهد لظهور “الهدى ودين الحق” الدين القيِّم ودين القيم على الدين- كلّه- واستيعابه للأنساق الدينيَّة والحضاريَّة والثقافيَّة الأخرى التي دخلت بقيم اللِّيبراليَّة والوضعيَّة والعلمانيَّة وما إليها مضايق النهايات. والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.