أ.د/ طه جابر العلواني
أطبقت كلمة مفكري الأمَّة، وقادة الرأي فيها على أنّ الأمَّة تعيش من عقود أو قرون “حالة أزمة فكريَّة وحضاريَّة وعمرانيَّة”. وقد انعكست هذه الأزمة الفكريَّة على الاعتقاد، والرؤية الكليَّة القائمة عليه، وعلى السلوك، والمعاملات، ونظم الحياة السياسيَّة والاجتماعيَّة والتربويّة والاقتصاديّة والثقافيَّة. وبعد تفكيك الأزمة لبناء الأمَّة الخارجيّ، والأسوار المحيطة به بدأت بتفكيك البناء الداخليّ للأمَّة، والإضرار بمواقفها من كثير من الأمور التي كان يظن أنَّها قد رسخ بناؤها، وصارت جزءًا من مسلّماتها مثل: قضيّة العلاقة بين “النصّ والعقل” والأفكار، والمواقف المترتبة على الاضطراب في تحديد تلك العلاقة وضبطها بموازين القرآن المجيد، ومن أبرزها: تحديد مرجعيَّة “تقييم الفعل الإنسانيّ” وبيان مراتبه وكيفيَّة حدوثه. ثم قضيَّة أخرى لا تقل خطورة عمَّا تقدم، وهي قضيَّة “الجبر والاختيار” التي حسمها القرآن، وبينَّها أجلى بيان، وأوضحه. وقد كان للاضطراب في هذا الأمر أثره البالغ في الاضطراب في بناء “إرادة الأمَّة” وإدراك الفروق بين “الإرادة الإلهيَّة والمشيئة” وعلاقة كل منهما بإرادة الأمَّة وإرادة الأفراد. و”العلل والأسباب والشروط”. كما اضطربت الرؤية في “الإمامة العظمى” مفهومًا، وشروطًا، ووسائل، وأدوات، وما إذا كان الرجوع فيها إلى النصّ، أو إلى الأمَّة وخبرتها، ومخزون تجاربها مع الاهتداء بالوحي في الأصول والمقاصد والغايات. وكذلك الموقف من “الواقع التاريخيّ”، وهل له حُجيَّة مَّا، أو هو مجَّرد سوابق تاريخيَّة نستخلص منها الدروس والعبر؟
الحالة الراهنة:
تُعد “الحالة الراهنة” امتدادًا للحالة التي ترتّبت على هزيمتنا بعد الحرب العالميَّة الأولى في أوائل القرن الماضي، وتفكّك الدولة العثمانيَّة، وفشل الثورة العُرابيَّة، واتفاق “سايكس وبيكو” على اقتسام العالم العربيّ بين بريطانيا وفرنسا.
وهذه الحالة تغيَّرت صورها وأشكالها ولم تتغيَّر حقيقتها التي تتلخّص بتجزئة الأمَّة، وإلحاق كل جزء بجهة من الجهتين، وفجأة وجدنا أنفسنا اثنتين وعشرين قطعة، أو دولة في المحيط العربي –وحده. تعيش معظم هذه القطع، أو الدول حالة استبداد داخليّ مع نفوذ أجنبيّ خارجيّ يصل أحيانًا إلى مستوى “التبعيَّة التامَّة” أو “التبعيّة غير التامَّة” لكنَّها يمكن أن تكون تامَّة في الوقت الذي يريد ذلك الأجنبيّ أن يراه. ومع التبعيَّة الخارجيَّة والاستبداد الداخليّ تنشأ حالة “تحلّل دكتاتوريّ” حيث يتعذر على “الجماعة السياسيَّة” في أيّ بلد أن تحافظ على تماسكها أمام هذين الغولين. كما يتعذر عليها أن تضع أهدافًا مشتركة تستطيع الإجماع عليها، أو التوافق عليها في الحد الأدنى؛ ولذلك فلا غرابة إذا ما وجدنا الجميع في حالة “تبعيَّة” بعد مرور ما يزيد على قرن على وقوعنا في تلك الحالة، فنحن مازلنا منذ القرن التاسع عشر في وضع تبعيَّة للمركز الغربيّ المهيمن.
وقد اتخذت تلك التبعيَّة أشكالاً عديدة اعتمدت على القوة ممثلة بقواعد عسكريَّة وحاملات طائرات عملاقة، وهيمنة اقتصاديَّة، واستلاب فكريّ ثقافيّ حضاريّ.
وهذه القوائم الثلاثة أمكن للمركز الغربيّ أن يوظّفها بكفاءة عالية في تكريس “حالة التجزئة” التي فشلت كل محاولات الوحدة، أو الاتحاد، أو التضامن في تغييرها، أو إضعافها.
ومع يقين الجميع بأنَّ الاستعمار لم يهيمن علينا إلا بالتجزئة. ولم ينجح في إقامة إسرائيل على الأرض الفلسطينيّة إلا لعدم وجود الأمَّة، والوحدة بينها. ولم تسقط العراق إلاّ لوجود التجزئة. ويجمع الخبراء العسكريّون أنّه لا يمكن بناء نظام دفاعيّ كامل لأيّ قطر من هذه الأقطار في ظل هذه الأحوال، وما يجري في ليبيا، وسوريا، والعراق، واليمن دليل ظاهر على ذلك، فحين تغيب الأمَّة، وتتفكك روابطها لا ينتظر أن يحدث إلَّا ذلك الذي ذكرنا، وهذا التمزق المدمر؛ ولذلك فإنَّ مفكري الأمَّة، وعقلائها والمخلصين من أبنائها، وقادتها مطالبون بإعادة بناء الأمَّة، وتجديد ما رثّ من روابطها ومداخل وحدتها.
ونقطة البداية نقاء التوحيد، وصفاء الإيمان، وطهارة المعتقد، وإعادة بناء الرؤية الكلية للإنسان المسلم، وترميم بنائه، وما تقادم منه؛ لتكوين الرؤية الكلية المشتركة، وإعادة بناء الوعي بضرورة إحياء الأمَّة وبعثها من جديد.
والأمر الثاني القضاء على الفساد بتزكية وتطهير عقول وقلوب وأفكار ونظم هذه الأمَّة؛ لأنَّ الله لا يصلح عمل المفسدين، ولأنَّه ربط الفلاح بالتزكية، أمَّا الفساد فلن يؤدي إلَّا إلى مزيد من الاضطراب، والتراجع، والأمراض، والفقر، والتخلف. ثم بعد ذلك يوضع بين يدي الأمَّة مشروع حضاريّ شامل يستطيع أن يَلُم شتات ما بقي من طاقاتها، ويدفع بها نحو إعادة البناء، والاعتصام بحبل الله، والتوحد، وتوحيد الجهود؛ لتحقيق وإنجاز بعث وإحياء وبناء أمل هذه الأمَّة من جديد.
وإذا لم تحقق الأمَّة ذلك فلا أمل في الخروج من الأزمات الراهنة أو الخلاص من عقابيلها وآثارها المدمرة.
اللهم هيئ لأمر هذه الأمَّة أمر رشد يُعز به أهل طاعتك، ويُذل به أهل معصيتك، ويُؤمر فيه بالمعروف ويُنهى فيه عن المنكر، وتعلو فيها كلمة الله.